المرحلة التي يَمُرُّ بها المشروع الوطني الفلسطيني، والقضية الفلسطينية عمومًا، مرحلة صعبة جدًّا، فهناك مُتغيرات يومية يتوقع أن تحصل على الأرض، بعد الانتخابات “الإسرائيلية” ونتائجها مع عودة نتنياهو للموقع الأول في القرار. وهو الذي قدمت له الإدارة الأميركية السابقة عندما كان رئيسًا للوزراء سابقًا، كل التسهيلات، والتغطية السياسية، وعلى كل المستويات منذ نهاية العام 2017. بما فيها تقديم الغطاء السياسي لقضايا جوهرية في عملية الصراع مع المشروع الصهيوني كالاعتراف بالقدس الموحدة عاصمة لدولة الاحتلال خلافًا للقانون الدولي، وقرارات الإجماع الأممي. وقد واجه الفلسطينيون تلك السياسة الأميركية بحزم، وثبات، وبدعمٍ مؤثر من الأصدقاء والحلفاء في العالم، ومنهم غالبية دول المجموعة الأوربية والصين وروسيا...
إن الحالة الوطنية الفلسطينية، وهي في معمعان المعركة السياسية وغير السياسية الدائرة مع الاحتلال، وارتفاع مستويات البطش والقمع ضد الفلسطينيين، ومع عودة صعود نتنياهو الأحزاب التوراتية الحريدية، وحزب “الصهيونية الدينية”، يفرض بها أن ترى الأولوية بالاستعداد المطلوب لمواجهة المرحلة التالية، وما تحمله من سخونة قادمة، بما في ذلك السخونة المتعلقة بما يُسمى بـ”مشروع الضم” “الإسرائيلي”، لمناطق واسعة من الضفة الغربية كما جاء في برنامج المتطرف (ايمار بن غفير) الذي يُطالب الآن بثلاث وزارات لكتلته البرلمانية لحزب “الصهيونية الدينية” في الحكومة التي تم تكليف نتنياهو بتشكيلها بعد الانتخابات الأخيرة التي جرت يوم 1/11/2022.
الأولوية الفلسطينية، تعني أيضًا، ترجمة ما تمَّ التوقيع عليه بين مختلف القوى والفصائل في الجزائر الشهر الماضي، من تفاهمات وتوافقات، وتعني كذلك تصعيد وتطوير وسائل الكفاح الفلسطيني بكل الأشكال المُتعددة والممكنة، والانتباه لضرورة ترتيب البيت الفلسطيني الداخلي. فالوحدة الوطنية، ضرورة لا غنى عنها، وشرط لازم (وغير كافٍ في الوقت نفسه) لمواجهة استحقاقات المرحلة. فالشرط الكافي يفترض على باقي القوى، التخلص من الإفراط في العصبيات التنظيمية لصالح البرنامج الوطني التوحيدي تحت راية منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الخيمة التي يفترض أن يتوحد الفلسطينيون تحت رايتها كإطار ائتلافي، يعترف العالم بأسره بها وبصفتها التمثيلية.
وعليه، إن الوحدة الوطنية، ووحدة الإرادة في البيت الفلسطيني، باتت مسألة على جانب كبير من الأهمية في هذه المرحلة بالذات، جنبًا إلى جنب مع الحراك الشعبي السلمي الديمقراطي بالأنماط والأساليب المتوافرة على الأرض، وصولًا للعمل المقاوم بالاشتباك مع جيش الاحتلال، وفي والحراك على المستوى الدبلوماسي الأممي.
إن وقف قطار “الضم الإسرائيلي” “الإسرائيلي التهويدي الزاحف”، وإحداث تغيير جوهري في المعطيات الأساسية القائمة على الأرض لصالح العملية الوطنية الفلسطينية، يتطلب استحضار القدرة الكامنة، وأوراق القوة الفلسطينية المتوافرة، ويمكن تلخيصها بالتالي:
أولًا: تفعيل الكفاح متعدد الأشكال، وبالوسائل المتوافرة، في وجه جيش الاحتلال وأجهزته القمعية التي تفتك بالمواطنين الفلسطينيين، ومعهم عصابات المستوطنين المسلحين، ومجموعاتهم التي تعيث فسادًا في مناطق مختلفة من الضفة الغربية، وقد وصلت أعداد هؤلاء المستوطنين نحو 600 ألف مستوطن، يُمثلون أعتى مجموعات التطرف والإرهاب في دولة الاحتلال.
وثانيًا: رفع وتيرة فعاليات المقاومة الشعبية على الأرض ضد الاستيطان الاستعماري والحواجز العسكرية والتصدي لمحاولات إقامة البؤر الاستيطانية من قبل المستعمرين على أراضي المواطنين ومشاركة الجميع في هذه الفعاليات.
وثالثًا: وبالتوازي مع العمل الشعبي على الأرض، وضع آليات عملية للضغط على الاحتلال لوقف عدوانه وجرائمه ضد شعبنا، وخصوصًا فرض عقوبات ومقاطعته ومحاكمته على هذه الجرائم لوضع حدٍّ لها، وخصوصًا أمام المحكمة الجنائية الدولية التي لا بُدَّ من تسريع آليات عملها في ظل استمرار سياسة الاستهتار من قبل دولة الاحتلال بكل القوانين والشرعيات الدولية. وبالفعل فإن حالة من الهلع تسيطر على مفاصل دولة الاحتلال خشية من محكمة الجنايات الدولية. لذلك تم الإيعاز “إسرائيليًّا” في المرحلة السابقة بوقف تنقل وسفر العديد من الضباط والأمنيين في “الجيش الإسرائيلي” إلى خارج فلسطين المحتلة.
ورابعًا: التوجُّه نحو المجتمع الدولي، وهيئاته المسؤولة، للضغط على دولة الاحتلال، ومنعها من تطبيق سياساتها القائمة على “الضم” والتهويد وابتلاع الأرض الفلسطينية، تلك الهيئات الأممية التي ترى بـ”حل الدولتين” حلًا وحيدًا ومقبولًا ويستند إلى الشرعية الأممية والقانون الدولي، وهو الحل الذي رفضته كل الأحزاب “الإسرائيلية” تقريبًا التي شاركت بالانتخابات الأخيرة، وقوائمها التي وصلت إلى أربعين قائمة.
وعليه، نقول، إن المرحلة القادمة، وفي أفقها المنظور، حبلى بالتطورات السياسية، وحتى المادية على الأرض، لأن دولة الاحتلال الإسرائيلي وجيش الاحتلال، قد وضع خططه (المُعلنة على كل حال) (قبل الانتخابات الأخيرة) لإجراء مجموعة من العمليات على الأرض، بما فيها إعادة الاحتلال الكامل للمناطق (A) وتفتيت الحالة الوطنية الفلسطينية، ولا يستبعد أن تقوم قوات الاحتلال خلال المرحلة التالية باجتياح كافة مناطق ومدن الضفة الغربية كما حصل عام 2002، عندما وصلت دبابات جيش الاحتلال إلى قلب المقاطعة في رام الله، وطوقت المبنى الذي تحصَّن وصمد داخله الرئيس الراحل الشهيد ياسر عرفات، واستطاع أن يُدير معركته واتصالاته السياسية العربية والأممية، وحتى معركته العسكرية من داخل تلك المساحة الضيقة إلى حين مرضه واستشهاده بعد نقله إلى المشفى العسكري في باريس (مشفى بيلسي) في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2004.
وخلاصة القول، وبعد انفضاض الانتخابات التشريعية “الإسرائيلية” الخامسة، وإعلان نتائجها بعودة صعود نتنياهو وقوى اليمين التوراتي الحريدية وحزب “الصهيونية الدينية”، يَفتَرِض بجميع القوى الفلسطينية تنحية التباينات فيما بينها لصالح الهم الوطني العام والاستعداد للمرحلة الصعبة القادمة. فدولة الاحتلال، لن تنجح في فرض إرادتها على الشعب الفلسطيني، ولا في تغيير الحقائق الجغرافية والديموغرافية والتاريخية مهما بلغت سطوتها أو قوة الدعم الخارجي لها. ولكن كل ذلك يتطلب من القوى الفلسطينية جميعها أن تكون في موقع الريادة، والوفاء لشعبها، لإفشال المشروع “الإسرائيلي”.

علي بدوان
كاتب فلسطيني
عضو اتحاد الكتاب العرب
دمشق ـ اليرموك
[email protected]