الحمد لله الذي سخر لنا ما في البر والبحر والجو، سبحانه وتعالي يسهل السفر ويلطف بنا في القدر وييسر العسير ويقرب لنا اليسير، ويمنّ على الإنسانية بأن سخر لهم وسائل التنقل من مكان إلى آخر تتطور وتختلف بحسب الأماكن والأزمان، فقد سخر لهم السفن في البحر، وسخر لنا الدواب في البر، وفصّل لنا أنواعها وترك ما استحدث لأوانه، ومن رحمته علينا في عصورنا الحديثة أن وفق البشرية لاكتشاف الوسائل المذهلة العجيبة التي لم يتخيلها آباؤنا الأولون ولم يكن يتصوره من عاشوا في العصور الغابرة، ومن أحسن ما اكتشفه الإنسان في العصر الحديث السيارات.. وغيرها من المركبات في الجو والبحر، التي قربت لنا المسافات ووفرت لنا الكثير من الأوقات.
فلا شك أنها نِعمٌ عظيمة جليلة ينبغي علينا بل وجب أن نشكر الله عليها، غير أن البعض بدل أن يشكروا الله تعالى عليها تجاهلوا ذلك أخرجوا منها المضرة بدل من أن نفعها، وهؤلاء ينبغي عليهم الوعي الحقيقي للجوانب السلبية التي يعود عليهم وعلى غيرهم بالمصائب تصل إلى قطع بعض الأطراف أو الموت الكامل، فنقول لهم هذه نعم يحتاج استعمالها إلى تعقل وتتطلب قيادتها تريث، فسائق المركبة في سيره أصبحت متعلقة برقبته أمانات كثيرة.. أولاها: أمانة روحه، وثانيها: أمانة أرواح من معه إن كان يقل معه أحد، وثالثها: أمانة أرواح السائرين معه في الطريق فلم يسهل الطريق لأجله وحده، ولم يصنع الطريق ليتخذه هو لنفسه وعلى حسابه، بل ينبغي عليه أن يعي حقوق الآخرين وأن يراعي مصالحهم كما يراعي مصلحته، ويحرص على عدم إيذاء أحد من جميع الجوانب، ورابعها: أمانة صيانة النعمة التي يركبها، فمركبته نعمة تركها الله بين يديه، وحرام عليه أن يهدرها أو أن يضيعها، وأي تسبب في ضرها كانت نتيجة لإهماله كان عليه إثم كبير وعظيم لتضييعه تلك النعمة، وخامسها: أمانة صيانة أموال الآخرين من حولها من الناس، فإذا كان هو حريص على حفظ ماله من مركبة وغيرها فهم أيضا على أموالهم أحرص، وإذا كان مهمل لماله فليس من حقه أن يضيع أموال الناس بإهماله، وسادسها: أمانة حق الطريق التي ينبغي عليه أن يراعيهما وأن يتخلق بالأخلاق الحسنة في سيره وطريقه ومروره فبأي حق يؤذي الأخرين بفعله أو بلسانه أو غير ذلك، وسابعها: أمانة الوقت فإذا كان هو ذو وقت مهم فالآخرون ذوو أوقات مهمة أيضًا، وإذا هو لا يبالي بوقته فالأخرون أحوج ما يكونون إلى أوقاتهم فبإهماله يضيع عليهم حياتهم أو أموالهم أو أوقاتهم، فبأي حق هذا الذي يتسبب بحادث بسبب إهماله ضيع أوقات الناس وتعطلوا خاصة إذا تعرضوا إلى أضرار جسدية ويجلسون في المشافي أيامًا أو أسابيعَ وأحيانًا شهورًا، أليس في ذلك إثم كبير عليه، وإن لم يكن هناك أضرار جسدية فتسببه بأضرار في المركبات بسبب إهماله هو تضييع لحقوق الناس، فهذا الذي تضررت سيارته بلا ذنب جناه، وتجلس مركبته عند من يصلحها شهور، وهي التي كان يقضي بها مصالحه، ويذهب بها إلى عمله، ويأتي بها بمتطلباته، وقد حبست عنه بسبب الحادث، أليس على هذا المتسبب بهذا بإهماله إثم وذنب، لهذا أرى أن من يتسبب في أي ضرر للناي فهو ضامن لهم، فبأي ذنب تعطل مصالحهم، بسبب إهمال الآخرين، فعلى المتسبب الضمان الكامل، فقد جعل المركبة التي هي نعمة من نعم الله يسر بها الانتقال حتى أصبحت الاسفار ضربا من المتعة، فضلا عن كونها وسيلة لقضاء الحوائج من الضروريات الأساسية لكل إنسان التي لا تقوم الحياة بدونها، وبالاستخدام السيئ من بعض الناس يقع الضرر وتحدث الحوادث المرورية التي تجعل الناس يخسرون أرواحهم، فالموت هو قدر ولكن إهمال الناس في القيادة جعله السبب الأول في موت الإنسان، وقد جعل الله ديننا حنيفًا يلزمنا بمحاسن الأخلاق وسموها، وحسن السير وآدابه، والحرص على نفع الناس وعدم ضرهم، فيا من تهملون فتضروا خلق الله فضلًا عن أنفسكم ، ألم تعلموا (أن رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - لم يخرج من الدنيا إلا وقد رسم للناس سبيل سعادتهم، وطريق راحتهم وأمنهم، ولم يترك صغيرا أو كبيرا من الخير إلا دل الإِنسانية عليه وأمرها به، ولم يترك صغيرة أو كبيرة من الشر إلا حذر الإنسانية منه ونهاها عنه، وكما أخبر بعض أصحاب رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - أن رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم- علمهم كل شيء يحتاجون إليه في مسيرتهم الدنيوية والأخروية، فلقد علمهم كل حق عليهم ليؤودنه، فلكل ذي حق حقه، ومنها كيف يركب دابته أو ركوبته وماذا يقول عند ركوبها؟ وكيف يمشي في الطريق؟ وماذا عليهم من حق الطريق؟ علمهم حق الجميع، علم الإنسان حق اللَّه تبارك وتعالى عليهم وحق أنبيائه ورسله وحق والديه وحق نفسه وحق ذوي رحمه وحق جيرانه من أي لون ومن أي جنس ومن أي مذهب، وحق أصدقائه، وحق أمواله، وصيانة حقوق المرور بالطرقات، فالطرق إنما وضعت أصلًا للمرور وليست للشرور، كل ذلك من حرص الإِسلام فيه على سلامة الأنفس والأموال والأعراض) (فقه الإسلام.. شرح بلوغ المرام 4/‏ 229) بتصرف بسيط، وفي (صحيح البخاري 3/‏ 132) :(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: “إِيَّاكُمْ وَالجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ”، فَقَالُوا: مَا لَنَا بُدٌّ، إِنَّمَا هِيَ مَجَالِسُنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا، قَالَ: “فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا المَجَالِسَ، فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا”، قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ؟ قَالَ: “غَضُّ البَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلاَمِ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيٌ عَنِ المُنْكَرِ”)، يقول ابن حجر في (الفتح 11/‏ 10): (قوله: “إياكم” للتحذير، وقوله: “والجلوس بالطرقات” في رواية الكشميهني في الطرقات، وفي رواية “على الطرقات” وهي جمع الطرق بضمتين وطرق جمع طريق وهو المكان الواسع فإنها سبيل، قوله: “فقالوا يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها”)، وفي حديث عائشة عند الطبراني في الأوسط: (“فإن أبيتم إلا أن تفعلوا” أي: فان كنتم لابد فاعلين قوله: “فأعطوا الطريق حقه، قالوا وما حق الطريق”، وفي حديث أبي شريح: “قلنا: يا رسول الله وما حقه؟” قوله: “غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، وفي حديث أبي طلحة زاد “وحسن الكلام وإرشاد بن السبيل وتغيثوا الملهوف وتهدوا الضال”، وفي حديث البراء عند أحمد والترمذي “اهدوا السبيل وأعينوا المظلوم وأفشوا السلام”، وفي حديث بن عباس عند البزار “وأعينوا على الحمولة”، وعند الطبراني زيادة “وذكر الله كثيرًا”، وعنده أيضا: “واهدوا الأغبياء وأعينوا المظلوم” ومجموع ما في هذه الأحاديث أربعة عشر أدبًا.
وقد اشتملت على معنى آداب الطرق حتى يتجنب التعرض للفتن، ومن التعرض لحقوق الله وللمسلمين مما لا يلزم الإنسان إذا كان في بيته وحيث لا ينفرد أو يشتغل بما يلزمه ومن رؤية المناكير وتعطيل المعارف، فيجب على المسلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند ذلك فإن ترك ذلك فقد تعرض للمعصية، وكذا يتعرض لمن يمر عليه ويسلم عليه فإنه ربما كثر ذلك فيعجز عن الرد على كل مار ورده فرض فيأثم، والمرء مأمور بأن لا يتعرض للفتن وإلزام نفسه ما لعله لا يقوى عليه فندبهم الشارع إلى ترك الأذى حسما للأرواح، لما فيه من المصالح من تعاهد بعضهم بعضا وذكرهم في أمور الدين ومصالح الدنيا وترويح النفوس في المباح دلهم على ما يزيل المفسدة من الأمور المذكورة، ولكل من الآداب المذكورة شواهد في أحاديث أخرى، وأما إحسان الكلام فقال عياض: فيه ندب إلى حسن معاملة المسلمين بعضهم لبعض فإن المار على الطريق يمر به العدد الكثير من الناس فربما سألوه عن بعض شأنهم ووجه طرقهم، فيجب أن يتلقاهم بالجميل من الكلام ولا يتلقاهم بالضجر وخشونة اللفظ، وهو من جملة كف الأذى، قلت: وله شواهد من حديث أبي شريح هانئ رفعه: “من موجبات الجنة إطعام الطعام وإفشاء السلام وحسن الكلام” ومن حديث أبي مالك الأشعري رفعه “في الجنة غرف لمن أطاب الكلام.. الحديث”، وفي الصحيحين من حديث عدي بن حاتم رفعه: “اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة”، وأما المعاونة على الحمل فله شاهد في الصحيحين من حديث أبي هريرة رفعه: “كل سلامى من الناس عليه صدقة.. الحديث” وفيه: “ويعين الرجل على دابته فيحمله عليها ويرفع له عليها متاعه صدقة”، وأما إعانة المظلوم فله شواهد آخر لا يسع ذكرها، وأما إغاثة الملهوف فله شاهد في الصحيحين من حديث أبي موسى فيه “ويعين ذا الحاجة الملهوف”، وعند بن حبان “وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث” والله يحب إغاثة اللهفان، وأما إرشاد السبيل فروى الترمذي وصححه بن حبان من حديث أبي ذر مرفوعًا “وإرشادك الرجل في أرض الضلال صدقة”، وللبخاري في (الأدب المفرد) من حديث البراء رفعه: “من منح منيحة أو هدى زقاقا كان له عدل عتق نسمة”، والمراد: من دل الذي لا يعرفه عليه إذا احتاج إلى دخوله، وفي حديث أبي ذر عند بن حبان: “ويسمع الأصم ويهدي الأعمى ويدل المستدل على حاجته”، ومنه “هداية الحيران”، وأما “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” ففيهما أحاديث كثيرة منها في حديث أبي ذر “وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر صدقة”، وأما “كف الأذى” فالمراد به كف الأذى عن المارّة بأن لا يضيق عليهم الطريق أو يقدم على شيء يتأذى منه الناس، وعن عياض قال: ويحتمل أن يكون المراد كف أذى الناس بعضهم عن بعض، وقد وقع في الصحيح من حديث أبي ذر رفعه: “فكف عن الشر فإنها لك الصدقة” وهو يؤيد الأول، وأما غض البصر فهو المقصود من حديث الباب، وأما كثرة ذكر الله ففيه عدة أحاديث يأتي بعضها في الدعوات”.. وللحديث بقية.

محمود عدلي الشريف
[email protected]