.. وهذا كله يناقضه الوصل للآية، على أن هناك من يقرؤها وصلًا، وهو مدرك ـ بلا شك ـ أنها من ظاهرة إجراء الوصل مجرى السكت، فالقارئ مستشعر، وهو يصل اللفظتين أنهما لفظتان، لا لفظة واحدة، وأنه استفهام تام المعنى بجملته الاسمية، وليس لفظًا واحدًا واردًا على صيغة المبالغة:(فعال)، والذي شرحته يقول به كثير من علماء الأداء، وهو الأمر الذي يُنقَل عنهم، حيث يقولون عن الحكمة من إيراد السكت هنا بقولهم:(وأما حكمة السكت على نون (من راق) في سورة القيامة الإشعار بأنهما كلمتان:(مَنْ) كلمة، وهي اسم استفهام، و(راق) كلمة ثانية، وهي اسم فاعل من الرقية بمعنى إذا حضر الإنسانَ الموتُ ووصلت الروحُ إلى ترقوة رقبته، يقال عندئذ: هل من راق يرقيه بالرقى فيشفيه من الموت”؟! (وهذا مستحيل)، إذًا (مَنْ رَاقٍ) كلمتان، فلو وُصِلَتَا: (من راق) لحصلَ إدغامٌ بلا غنة بين النون، والراء، فتنطق:(مَرَّاق) بتشديد الراء، فيُظَنُّ أنها كلمة واحدة على صيغة (فَعَّال) بتشديد العين مبالغة اسم فاعل من الفعل(مرق)؛ لذلك رُدَّ هذا الوهمُ بالسكت على النون؛ حتى لا تُدْغَم”، وقال غيره:(كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ)، (كلا): ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة، وتذكير لهم بما يؤولون إليه من الموت الذي تنقطع العاجلةُ عنده، وينتقل منها إلى الآجلة، و(إذا) ظرف لما يستقبل من الزمن، وجملة:(بلغت ..) في محل جر بإضافة الظرف إليها وفاعل (بلغت) مستتر تقديره هي يعود إلى النفس الدّال عليها سياق الكلام، وإن لم يجر لها ذكر كما قال حاتم:(أماويّ ما يُغنِي الثراءُ عن الفتى ** إذا حشرجتْ يومًا وضاق بها الصدرُ)، أي: الروح، وَقِيلَ:(مَنْ راقٍ)، الواو عاطفة، وقيل: فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل مستتر تقديره هو أي مَنْ حوله، و(من) اسم استفهام في محل رفع مبتدأ و(راق) خبره، وهو مرفوع، وعلامة رفعه الضمة المقدرة على الياء المحذوفة؛ لالتقاء الساكنين (وقدرت الضمتان للثقل)، وجملة:(من راق) مقول القول، وهذه الجملة هي القائمة مقام الفاعل، فهي في محل رفع تنوب مناب الفاعل، ويجوز للجملة أن تنوب مناب الفاعل كما يجوز لها أن تقع فاعلًا كما في قوله تعالى:(وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ) (إبراهيم ـ 45)، كما في نحو:(ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) (يوسف ـ 35)، فكما تقوم الجملة مقام الفاعل فكذلك تقوم الجملة مقام نائب الفاعل. فكلمة قيل تعني أن القول خرج من كثيرين لا يحصون عددًا، وخرج من أفواه لا نعلم عددها ودموعها ورجاءها ودعاءها والتفافها حول ميتها ومتوفاها، أو مَنْ هو رهين الاحتضار، وخروج الروح، وهم حوله ملتفُّون، لا يرون ملكَ الموت، وهو موجود، ينزع الروحَ، ويُسْلِمُهَا إلى بارئها.
وجاء في أحد التفاسير التي تَنْقُلُ عن التفاسير النقلية القديمة هذا المعنى: (قال تعالى: “كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِي”، الترقوة هي: مكان الحشرجة، مكان نزع الروح من الجسد بين العاتقين، والرقبة، والروح تسكن في سائر الجسد)، كما قال شيخ الإسلام: وحال الروح مع الجسد كحال الماء مع الإسفنجة، فهي في كل أنحاء الجسد، ينزعها ملك الموت وأعوانه من الساقين إلى الفخذين، إلى البطن، إلى الصدر، حتى تصل إلى التراقي، إلى الحلقوم، عند ذلك الروح تأبى أن تفارق الجسد، أما روح المؤمن، فينزعونها في رفق، وسهولة، كما تنزل القطرة مِنْ فِي السِّقَاء، أما روح الكافر العاصي المنافق فيضربون الدبر، والوجه حتى تخرج؛ لأنها لا تريد الخروج.
والأهل يستعدون بالكفن للجسم، والملائكة يستعدُّون بالكفن للروح، فتخرج الروح، وعند ذلك تتعالى الأصوات:(وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ(، أي: هل من أحد يرقيك؟ هل من طبيب معالج؟ استدعوا الطبَّ، والعلاجَ، لكنْ هيهات، هيهات. أن يحصل لهم إنقاذ، أو إرجاعه إلى العاجلة بعد أن نزل في منازل الآجلة، وأمسى في عداد الموتى، وأهل الآخرة، وفي تفسير آخر أن ملكَ الموت يسأل الأعوان: من سيرقى بها؟، يعني: مَنْ سيحملها إلى السماء؟، أيْ: أن جملة الاستفهام لها مصدران؛ إما أنهم أهل المتوفى، وإما أنهم ملائكة الله الكرام، وهو تفسير مقبول، والأولُ أولى، وأدعى إلى السياق، ويرشحه الموقفُ والحال، وتؤكده عباراتُ وكلماتُ الآية.

د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية
[email protected]