عندما كنت أبحث عن موطئ قدم أقف عليه في مقابر وادي الملوك بالأقصر وسط الحشود الأوروبية والأميركية والآسيوية والإفريقية، وطابور البشر شِبه متوقف، استثمرت وقتا يكاد يضيع فالتقطت ما أنشغل به، التفكير في هذا المكان الذي كان مزدهرا قبل 4000 سنة، بل ومركزا للحضارة البشرية، يعجُّ بالنشاط والحركة والآلهة والملوك ومنافسيهم الشرسين، والكهنة والنبلاء والعلماء والحاشية والمعماريين المهرة والتجار والحرفيين والخدم، والآمال والأحلام والحروب والصراعات والهزائم والانتصارات، والأسواق والمشاريع... فاختفت كل تلك الأبهة والبذخ والبهرجة والعظمة لقرون طويلة، وطمس فيضان النيل الحضارة القديمة تحت الأرض، ويعيد اليوم هؤلاء الأموات الحياة من جديد إلى المكان في عصر مختلف وزمن لا رابط بينه وبين ذلك الماضي البعيد. فالتحوُّلات الهائلة والعميقة التي أحدثها الإنسان عبر العصور ردمت معظم معالم الحياة القديمة، فهؤلاء الباعة المتجولون والأسواق الناشئة وعربات النقل والمواصلات بأنواعها والمقاهي والمطاعم والسفن السياحيَّة وقِطاع السَّفر والفنادق... يعتاشون على إنجازات ومدافن وجثامين أولئك الأموات من الحضارة المصرية البائدة. فمن كان يتوقع ذلك ممن عاش في العصور القديمة، ويتصور بأن جثامينهم وقبورهم ومدافنهم ومومياتهم سوف تبهر إنسان اليوم؟ وتصبح مركزا وجذبا لدراسات وأبحاث وتنقيبات علماء وجامعات ومختبرات العصر، وتتحول آثارهم ومعابدهم إلى أماكن مشهورة يأتيها الناس من كل بقاع العالم؟ فيا لهذه المفارقة العجيبة والآية المتضمنة دروسا وعبرا وقراءات لا حصر لها. في طريقنا إلى وادي الملوك لفت المرشد السياحي نظرنا إلى الصوامع التي ما زالت تحتفظ بملامحها القديمة، فيوضح بأن الكثير من التفسيرات تؤكد أنها هي التي بناها النبي يوسف في مصر لتخزين القمح فيها استعدادا لسنوات القحط، عموما فإن الأقصر تحتضن إرثا عظيما لحضارة امتدت في وادي النيل لأكثر من 1500 سنة. وبالرغم مما يكتنف الديانات القديمة من أساطير وخرافات وقصص لا يقبلها العقل اليوم، تمزج بالقليل من الحقيقة، إلا أن قِيَم الخير والشر والثواب والعقاب والدنيا والآخرة... من المسلمات التي تتفق عليها الأديان في معظمها إن لم يكن جميعها، يقول عباس محمود العقاد في كتابه “الله”: “كان المصريون من أعرق الأمم التي آمنت بالبعث والثواب والعقاب بعد الموت..” وفي محور آخر من الكتاب يشير إلى مقارنة أجراها كل من “هنري برستيد وآرثرويجال بين صلوات أخناتون وأحد المزامير العبرية فاتفقت المعاني بينهما اتفاقا لا ينسب إلى توارد الخواطر والمصادفات...”، إنها حضارات وادي النيل التي لم يشهد العالم مثيلا لها في جميع عصوره التاريخية، حضارة تولد من رحم أخرى. في المساء ذاته لبينا دعوة الكاتب والإعلامي المعروف “سلامة حجاج”، الذي غمر وفد “لبان”، بأخلاقه العالية وكرمه الواسع ودعوته للفيف من شعراء ومثقفي الأقصر، حيث كان الشعر حاضرا، والحوارات المتنوعة غنية بالملاحظات والرؤى العميقة. بالقاهرة لم نفوِّت فرصة التطواف في الأحياء الشعبية العريقة التي تتضوَّع أزقَّتها وآثارها وأسواقها ومساجدها ومقاهيها ومكتباتها بعبق التاريخ وتحتشد بالذكريات والقصص والأمجاد وروائح القهوة والعطور والبهارات... مثل السَّيدة زينب وخان الخليلي وسوق الأوزبكية ومكتبات القاهرة العريقة لمن تستهويه العناوين ويعشق الكتاب والقراءة، وزيارة أهرامات الجيزة بالطبع التي تعد واحدة من أهم الصروح الحضارية السياحيَّة في القاهرة، ويمتد تاريخها إلى ما يقارب الـ”5000” سنة، وقد تم بناء الأهرامات، للتحضير لحياة الآخرة اعتقادا من الفراعنة بأنهم سوف يتحولون إلى آلهة. في مائدة الغداء التي أقامها سعادة السفير العُماني عبدالله بن ناصر الرحبي، في القاهرة، تناولت الحوارات، العلاقات العُمانيَّة المصرية التي ترسخت بشكل واسع خلال العقود الماضية، وآفاق الاستثمارات المشجعة بين البلدين والتي توقع سعادته أن تشهد نموا متسارعا في الفترة القادمة، ودور المثقفين والإعلاميين في تعزيز هذا النمو والدفع به قدما إلى الأمام، وأهمية التعريف بتاريخ عُمان وإنتاج ومكانة مفكريها وأدبائها وعلمائها، وتنظيم ندوات ثقافية ومكتبة عامة تختص بالكتاب العُماني، إلى جانب مواضيع وملفات مختلفة. وقد تلقى سعادة السفير شكر المدعوين لمأدبته، على حُسن الاستقبال والنقاش البنَّاء والاهتمام بهذه المبادرات التي تدشنها “لبان”. في المساء دعانا الدكتور سعيد السيابي لارتشاف فنجان قهوة في أحد مقاهي القاهرة بحضور الكاتبة والروائية البارزة الدكتورة “رشا سمير”، وكانت هموم المشهد الثقافي وتقييم الإصدارات الروائية الحديثة، واستعراض الكاتبة لقائمة رواياتها، وحرصها على إهدائنا نسخا منها من أبرز محاور هذا اللقاء. وبحقٍّ أجدني ممتنًّا، بعد قراءاتي لمقالات الدكتورة رشا وإحدى رواياتها، للدكتور السيابي على هذا اللقاء الثقافي الجميل والتعرف على كاتبة شهد لها قلمها بالأناقة والبراعة. كان الاحتفاء بمرور سنتين على انطلاقة “لبان”، كمؤسسة دار نشر ـ حصلت خلالها على الثقة والنجاح ـ بإصدارها لكتابي “الأندلس تطواف بين مدينتين” الذي حظي برقم “١٤٠”، في حضور الروائي المصري إبراهيم عبد المجيد، خاتمة هذه الرحلة، التي سوف تشرق في سماء دول ومدن أخرى، ومشاركين جدد بمشيئة الله تعالى في قادم الأوقات والأيام. وقد ظفرت من الروائي الكبير، بآخر إصداراته، إهداء وتعبيرا عن علاقة قارئ مُحب لرواياته منذ عقود، فله منِّي خالص الشكر والودِّ متمنِّيا له وافر الصحة ومديد العمر. من بين حضور مناسبة اللبان كذلك، الأستاذ المخضرم الصديق فؤاد عبد الباقي، الذي عمل لسنوات في سلطنة عُمان، كباحث وخبير في وزارة الأوقاف بداية، والمجلس الاستشاري للدولة في المرحلة الثانية، ويحتفظ لعُمان والعُمانيين بمحبَّة كبيرة ولمسة وفاء وتقدير لا يفتأ يعبِّر عنها مع كل فرصة ولقاء ومناسبة. شكرا للبان وللصديق الكاتب والإعلامي محمد الرحبي، ورفقاء الرحلة الممتعة والغنية بالمعلومات والأهداف، على المبادرة، والإسهام في نجاحها الباهر.


سعود بن علي الحارثي
[email protected]