أيها القراء الكرام .. أشرت في اللقاء السابق إلى بعض الناس من المتغطرسين المغرورين الذين يمشون في الأرض مرحا، ولا يدكرون عواقب ذلك إلا بعد أن تكون مركباتهم ملقاة على الطرقات يحوقل كل من يراها ومستعيذًا بالله أحيانًا، وهذا الإنسان الذي هانت عليه نفسه لا لشيء إلا لأنه يحب أن يسبق المارة من حوله ممن يشاركونه الطريق، فيتسبب بضررهم أو بموتهم أحيانًا، ولا يدرك أن هذا الذي فعله هو معصية لربه، بل هو فسق ـ والعياذ بالله.
جاء في كتاب (الفقه الأبسط، ص: 124): (قَالَ أَبُو حنيفَة ـ رحمَه الله: من قتل نفسا بِغَيْر حق أَو سرق اَوْ قطع الطَّرِيق اَوْ فجر اَوْ فسق اَوْ زنى اَوْ شرب اَوْ سكر فَهُوَ مُؤمن فَاسق) ولا حول ولا قوة إلا بالله، ألم يعلم هذا الذي يؤذي نفسه وغيره أو يقتل نفسه ويقتل غيره، أن الطرقات لها حقوق من ناحية السير والحركة والوقوف والمرور، بل ضعت للمشاركة بالقسط بين الناس الكل فيهاكالكل.
وتأملوا معي هذا الحديث الذي رواه ابن حبان في صحيحه مخرّجًا (2/‏‏ 357): (عن أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رضي الله عته ـ قَالَ:(نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ
عَنْ أَنْ تَجْلِسُوا بِأَفْنِيَةِ الصُّعُدَاتِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَا نَسْتَطِيعُ ذَلِكَ وَلَا نُطِيقُهُ، قَالَ: مَّا لَا فَأَدُّوا حَقَّهَا، قَالُوا: وَمَا حَقُّهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟، قَالَ: رَدُّ التَّحِيَّةِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ إِذَا حَمِدَ اللَّهَ، وَغَضُّ الْبَصَرِ، وَإِرْشَادُ السَّبِيلِ).
ألم يعلم هذا الذي يتضجر من إفساح الطريق لمار قد يكون أحوج منه إلى السبق أن هذا من حقه عليه، ألم يعلم أنه إذا أعان إنسان على أن تتيسر طريقه أمامه ليصل بسلام فإن له أجر، فقد أخرج ابن حبان في (صحيحه ـ مرجع سابق 2/‏‏358): (عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى مَجْلِسِ الْأَنْصَارِ، فقَالَ:(إِنْ أَبَيْتُمْ إِلَّا أَنْ تَجْلِسُوا، فَاهْدُوا السَّبِيلَ، وَرُدُّوا السَّلَامَ، وَأَغِيثُوا الْمَلْهُوفَ)، فكيف تغيث ملهوفًا وأنت تسد أمامه الطريق أو أنك تسابقه حتى تخسر أنت وهو أعز ما لديكما وهي الحياة أحيانًا، ومن أجمل ما قرأت في (تفسير الشعراوي 18/‏‏ 11145): (الطريق وهو مكان عام يُعَدُّ المرحلة الأخيرة لانضباط السلوك الذي يجب أن يكون في المجتمع، فأنت مثلاً لك حجرة في بيتك خاصة بك، ولك فيها انضباط خاص بنفسك، وكذلك في صالة البيت لك انضباط أوسع، وفي الشارع لك انضباط أوسع. والانضباط يتناسب مع الواقع الذي تعيشه، فحين تكون مثلاً بين أناس لا يعرفونك لا يكون انضباطك بنفس الدرجة التي تحرص عليها بين مَنْ تعرفهم كالموظف في مكتبه، والطالب في مدرسته. لأن معايش الناس وحركتهم تعتمد على الحركة في هذه الطرق. السبيل كلمة مطلقة وتعني الطريق، سواء كان الطريق المادي أي: الشارع الذي نمشي
فيه أو: المعنوي وهو الطريقة التي نسير عليها، ومنها قوله تعالى: (قُلْ هذه سبيلي..) (يوسف ـ 108) أي: طريقي ومنهجي، لذلك السبيل القيمي سبيل واحد، حتى لا نتصادم ولا نتخاصم في حركة الحياة المعنوية، أمّا السبيل المادي فمتعدد حتى لا نتزاحم في حركة الحياة المادية، والسبيل المادي (الطريق) الذي نسير فيه يُعَدُّ سمة الحضارة في أي أُمة، إذن: كلما وُجدت حركة زائدة احتاجت إلى طرق إضافية، وهذه الطرق تتناسب والمكان الذي تنشأ فيه، فالطرق في المدن نُسمِّيها شوارع وفي الخلاء نسميها طرقاً تناسب المساحة داخل المباني، ومنها تتفرع الحارات، وهي أقل منها، ومن الحارة تتفرع العَطْفة، وهي أقل من الحارة، وكلما ازدحمتْ البلاد لجأ الناس إلى توسيع نظام الحركة لتيسير مصالح الناس. كما نرى من أنفاق وكَبَارٍ، حتى لا تُعاق الحركة، وحتى نوفر للناس انسيابية فيها. والأنفاق أنسب للجمال في المدن، والكبارى أجمل في الفضاء، حيث ترى مع ارتفاع الكباري آفاقًا أوسع ومناظر أجمل، فأنت يامن تتسبب في حادث لغيرك نتيجة إهمالك مثلك كمثل قُطَّاع طرق كالذين يخرجون على الناس في أسفارهم وحركتهم، ويؤذون خَلْق الله، ويتجاهرون بالقبيح من القول والفعل، فلا يسْلَم من إيذائهم أحد).
فلماذا هذه السلوكيات بين المسلمين؟ وكيف تصبح صورة عامة في شوارعنا وطرقاتنا؟ والتي ينبغي أن نظهر من خلالها سلوكًا ينمُّ عن ديننا وأخلاقنا ومعادننا وطيب أعراقنا وسمّو أخلاقنا وسلامة مجتمعنا، إننا أحوج ما نكون إلى السوك القويم والتسامح والسير المستقيم، نهدي الضال ونرشد التائه ونفسح للضيق ونمشي هونًا كعباد الله الصالحين، فإنّ هذا أنفع لنا في الدنيا والآخرة وأنفع لغيرنا أيضًا، ففي (المختصر النصيح في تهذيب الكتاب الجامع الصحيح 3/‏‏ 153): (عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ الله ـ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ:(بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ فَأَخَذَهُ فَشَكَرَ الله لَهُ فَغَفَرَ لَهُ).
سبحان الله.. تأملوا يا من تهلكون أنفسكم أو تزهقون أرواح غيركم بأخطاء شيطانية، نعم أقول شيطانية فما من عجلة أو عند أو إيذاء إلا كانت وسوسة الشيطان من خلف ذلك، انظروا كيف أن الله تعالى غفر لهذا الرجل لأنه فقط أزال غصن شجرة عن طريق الناس، فكيف بكم يا من تعترضون الناس بحافلاتكم أو مركباتكم أو حيواناتكم من جمال وغنم ومعز.. وغيرها، ألا تحبون أن يغفر الله لكم، جاء في (تفسير أحمد حطيبة 78/‏‏ 4، بترقيم الشاملة آليًا):(فالمارُّ في الطريق يحرم عليه أن ينظر إلى ما حرم الله عز وجل، والذي يحط في الطريق أشياء يحرم النظر إليها يأثم إثمًا عظيمًا؛ كأن يخرج الرجل ابنته أو امرأته متبرجة إلى الطريق، أو يعلق صور نساء عاريات في الطريق،
فإذا كان النظر إلى ذلك حرامًا، فالذي يجعل ذلك أشد إثمًا، وواقع في الحرمة
الشديدة بسبب ذلك أي: أنك لا تؤذي أحدًا من المسلمين، والدين يعلمك أنك تكون رفيقًا لا عنيفًا، وترشد الناس برفق، فتأمر بالمعروف تبتغي أن يهدي الله عزَّ وجل الناس بك، وتنهى عن المنكر حتى يقل، وإذا كان النهي عن المنكر سيسبب منكراً أكبر فلا داعي للنهي عنه، فأمر النبي (صلى الله عليه وسلم) أصحابه، وعلمهم بحقوق أخرى مثل: إرشاد الطريق، وإعانة الإنسان الذي يحمل شيئًا على دابته، أو يحمل على ظهره فتعينه على ذلك، وتغيث الملهوف والمحتاج. ولهذا أوجه ندائي إلى كل من يخرج من بيته قائدًا لمركبة أيًّا كان نوعها أن يراعي الحقوق والواجبات وأن يلتزم بآداب الطرقات، فليس فيها عند الخطأ حياة بل ممات، كيف تسول لك نفسك أن تكون سببًا في تعطيل مركبة رزقك الله بها وحرم منها غيرك؟، وكيف تسوّل لك نفسك تخسر صحة وهبك الله إيّاها وحرم منها سواك؟، كيف تسوّل لك نفسك أن تحرم أمك وأباك من أن ترجع إليهما سالمًا؟ كيف تسوّل لك نفسك أن ترمّل زوجتك وتيتم أولادك؟ لا تتخيل أولادك وأنت بينهم بل تخيلهم وأنت تحت التراب وهم يقاسون الأمرين طوال الليالي والأيام وقد حرموا منك وأنت الأب؟ كيف تسوّل لك نفسك أن تخسر حياتك أو عضوا من أعضائك؟ وتظل عاجزًا ما بقي لك من حياة؟ بل إن هناك بعض الناس من فقد أطرافًا مهمة وأصبح لا يستطيع الحراك، فيا أهل الضمائر انتبهوا!
ويا أهل العقول أفيقوا! أفيقوا يرحمكم الله! الطريق ليس حلبة مصارعة، إذا توقف أحد أمامك مضطّرًا لا تهدأ ولا تصبر! إذا جئت مسرعًا وهدئ من أمامك لا تفكر في أن تهدئ سرعتك بل سرعان ما تميل إلى الحارة التي بجوارك دون أن تلتفت أحيانًا، فلماذا لا تصبر؟ لماذا لا تهدئ سرعتك؟ بدلًا عن أن تصطدم بمن بجوارك أو بمن أمامك ويدفعك غرورك أن تفعل هذا من غير مبالاة أو تقدير للأمور، أيها الناس إن الأمر جد خطير ونحن نحتاج إلى الإسلام الحقيقي في شوارعنا وطرقاتنا، وقد يوافقني البعض أننا نرى في الطرقات العجب العجاب، والأعجب أن إذا جلست مع أولئك المسرعين الضارين المضرين، تجده يعظ الناس بالتمهل، فتقول في نفسك سبحان الله أنا وأنت وهذا وهؤلاء يوافقون على التمهل في السير إذن فمن يقوم الحوادث؟ ومن يتسبب فيها؟ ومن يقلي بالمصائب على الأبرياء بلا ذنب إلا أن القدر ساقه ليشاركه الطريق، فاتقواالله..
.. وللحديث بقية.

محمود عدلي الشريف
[email protected]