.. لكنَّ بناء الفعل لما لم يسم فاعله: (وقيل) يجعل هذه التفاسير كلها مقبولةً، بصرف النظر عن أَوْلَاها هنا، وأفضلها بالقبول؛ وذلك للسياق الحاصل، والمعنى الأدق، والموقف المشاهَد، والخلق الحاضرين الملتفين حول متوفَّاهم، وميتهم المحتضر، والذين يبحثون له عن مخرج، وعن راق يرقيه، ويخرجه مما هو فيه، وهيهات لهم أن يجدوه، أو ينقذوه. وجاء في بعض الموسوعات القرآنية ما خلاصته: والضمير في (بلغت) للنفس، وإن لم يَجْرِ لها ذكرٌ، وعدمُ ذكر الفاعل، ولا ما يدل عليه مناسبٌ لِجَوِّ العجلة الذي بُنِيَتْ عليه السورة، ونحوه ما مَرَّ في حذف جواب القسم في أول السورة، وحذف عامل الحال:(قادرين)، وعدم ذكر ما جرى عليه الضمير في قوله:(لا تحرك به لسانك لتعجل به) وغيره.. ، و(قيل من راق)، وحذف الفاعل، وإبهامه في: (قيل) كله مناسبٌ لإضماره، وعدم ذكره في:(بلغت التراقي) كلاهما لم يَجْرِ له ذكرٌ، وكذلك الإبهام في: (راق) فإنه مناسب لسياق الإبهام هذا، فإن كلمة: (راق) مشتركة في كونها اسم فاعل للفعل: (رقى يرقِي)، وهو الذي يقرأ الرقية على المريض؛ ليشفى، وفي كونها اسم فاعل للفعل (رقي يرقى) بمعنى:(صعد)، ومنه قوله تعالى:(أو ترقى في السماء)، واختلف في تفسير هذه الآية على هذين الوجهين:(من يرقيه فيشفيه وينجيه من الموت؟) أو من يرقى بروحه إلى السماء، أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ فالقائل مجهول، أهم أهله، ومَنْ يتمنى له الشفاء؟ أم هم الملائكة الذين حضروه في أثناء الموت؟ فانظر جو الحذف، والإبهام، وكيف ناسب ما قبله، إنه الإعجاز بتناغم اللفظ مع سياقه، وتضاهيه مع محله ودلالته المتساوقة مع تلاوته، إعجاز في إعجاز، وبيانُ كمال في إيجاز.
هذا فيما يتعلق بالسكت في تلك الآية الكريمة، وأما فيما يتصل بالسكت في الآية الرابعة من السكتات الواجبة فهي قوله تعالى:(كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (المطففين ـ14)، وهنا يتكلم القرآن عن صفات المكذبين الذين أعدَّ لهم الويلُ والثبور، فذكر مِنْ بَيْنِ ما ذكر تلك الآية الكريمة، وصدَّرها بحرف الزجر والردع (كلا)، الذي يعني شدخ صدورهم، وتدمير رؤوسهم التي لا تفكِّر بشكل صحيح، ولا لديها مسكةٌ من عقل سليم، ولا رأي سديد، ويأتي حرفُ الإضراب: (بل) ليضربهم في أفئدتهم؛ ليرديهم مُفَتَّتِين في أماكنهم، واللام حرف يدغم في الأصل في الراء، ولكنْ هنا السكت على لام (بل)، والوصل بكلمة (ران)، لا يجعل الإدغام يتمُّ، والسكت هنا السكت يحقق عدة أغراض: لفظية، ومعنوية كسابقه، فالدلالة المعنوية هي أن الران قد خيَّم على قلوبهم، فكساها وعشش فيها، والفعل ران يرِين رينا: يقال: ران الثوبُ رَيْنًا: تطبع، وتدنَّس، ورانتِ النفس: خبثت وغَثَتْ، وران عليه النعاسُ، وران على قلبه الذنبُ، يعني قسا قلبُه لاقتراف الذنب بعد الذنب، والران الغطاءُ، والحجابُ
الكثيف، والصدأ يعلو الشيء الجلي كالسيف، والمرآة، ونحوهما، والدنس، وما غطى على القلب، وما ركبه من القسوة للذنب بعد الذنب، والرين الران، أيْ بل غطى، وحجب، ودنس ما اكتسبوه من المعاصي، والآثام على قلوبهم، وطمس عليها، وجعلها لا تبصر، ولا تعي الصوابَ من الطاعات، والعبادات، فصارتْ محجوبةً عن الخير بسبب توالي المعاصي التي ترين، وتحجب، ويتصلَّب حجابُها كلما كثُرتْ، والتعبير بالفعل:(يكسبون) تعبير مُخِيف، فلم يقل:(بما يكتسبون) لأن فطرتهم قد فسدتْ، وانطمستْ، فصاروا يعدُّون الاكتساب كسبًا، فلا يميزون بين غثٍّ، وسمين، ولا بين معصية، وطاعة، فكلُّها عندهم ممدوحةٌ، يرتكبونها كأنها طاعة، فصار البعدُ عن الله كالقربِ منه، واقتراف الإثم كعمل الطاعة، فضاعوا، وضاعتْ قلوبُهم، وانتهتْ أفئدتهم، وضاعتْ نفوسهم؛ جراءَ استساغة المعاصي، وتتالي القبائح التي أمسوا يعدُّونها بطولةً، والاجتراء على الله يرتكبونه دون وازع، فاستحقُّوا الران يغطي على
قلوبهم، وعقولهم، وتجيَّفتْ قلوبهم، وشحبتْ عقولهم، فحرف الإضراب، وقبله حرف الزجر، والفعل: ران، والفعل (يكسبون) قد رسمت جميعها صورة هؤلاء العاصين، الفجرة البعيدين عن ربهم، فحقَّق السكتُ هذا المعنى الكبير، ورسم تلك الدلالة الضخمة لهؤلاء الصغار عقلًا، وفكرًا، وسلوكًا، وأما من الناحية اللفظية فقد جعل اللفظتين كلمتين مختلفتين، (بل)، و(ران).


د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية
[email protected]