منذُ نعومةِ أظافره، يبدأ الإنسان نزاله الأوَّل غير مخيَّر، يحفر بصخر الإصرار بشهقة زفير لمجيئه لهذا العالَم، منذُ أوَّل نَفَسٍ وأنتَ تكافحُ من أجْلِ البقاءِ بمخاضٍ لا يُطاق، ترجف فيه الرُّوحُ ويتمزَّق فيه الجسَدُ، بصرخاتِ خروجِ قَلْبٍ من قَلْبٍ ورُوحٍ من رُوحٍ بعد انتظار تسعة أشهر ترتقب الأُمُّ بألَمٍ وشوقٍ وازدحامِ مشاعرَ، لِيأتِيَ مولودُها بهجومٍ متناسق تتواتر فيه التقلُّصات المُتكررة بأحشائها، في كُلِّ طلقةٍ تشعرُ فيها بأنَّ روحَها ستبرأ لخالقها.
يأتي الاتِّصالُ لطبيبِ الأطفال الذي يكُونُ دائمًا في حالة تأهُّبٍ مستمرٍّ وبجاهزيَّةٍ عالية لاستقبالِ صدماتٍ لمخلوقات هشَّة، بوجود ولادة مُتعسِّرة، جنين ما زال يصارع من أجْلِ الخروج.. الطفل لا يصرخ، لا يتنفَّس، لونُه أزرق، حركتُه ضعيفة، لا يستجيب، تتباطأ دقَّاتُ قَلْبِه، ودقَّاتُ قَلْبِ الطبيب ترتفع.. تهبط مؤشِّراتُه الحيَويَّة ويرتفع الأدرنالين لدى الطبيب؛ فيبدأ سباقَه في عمليَّة يُعدُّ فيها عاملُ الزَّمن أساسيًّا لتدفُّق النبضات.. يبدو أنَّ هذا المولودَ حانقٌ على عمليَّة عُبوره من عالَم الأجنَّة إلى عالَمنا، وإذا لَمْ نتدخَّلْ سريعًا فإنَّ روحَه ستُحلِّق نَحْوَ السماء، وسيذهب إلى عالَمٍ آخر.. هي لحظاتٌ عميقة يتعادل فيها الموتُ مع الحياة.
الطفلُ غير قادرٍ على الaبُكاء، يبدو في ضائقة تنفسيَّة، لكنَّ يَدَ النَّجاةِ أمسكتْ به بإحكامٍ لِيشدَّ عليها بقوَّة، لِتنطلقَ صرختُه انتصارًا للحياة.. بعد نِزالٍ شرسٍ يتغيَّر لونُه إلى الورديِّ، شيئًا فشيئًا بدأتِ الدِّماءُ تجري في عروقه، يُدثَّرُ بعدَها بقماشٍ أبيضَ لِيمنحَه جزءًا من دفءِ هذا العالَم الجديد بخيوطٍ من شمسِه الساطعة، حيثُ تنتظره الحياةُ لِيعمرَها ولِيبدأَ ملحمتَه، فنحنُ بيولوجيًّا نولَدُ من أرحام أُمَّهاتنا، ولكنْ وجوديًّا نحنُ نولَدُ أيضًا من رحمِ الحياةِ النَّازف.
أيُّها الإنسانُ صارعتَ بشراسةٍ من أجْلِ البقاءِ برغبةٍ مِنْك أو بدُونِها خُضتَ نزالَك الأوَّل مبكرًا جدًّا في الثواني الأولى من ولادتِك، تحمَّلتَ ضعفَكَ وضآلةَ وزْنِكَ، هشاشةَ عظمِكَ ورقَّةَ جلدِكَ.. وتأكَّدْ أنَّك لو لَمْ تَقبلْ شرَفَ نضالِ ولادتِكَ لَما عِشتَ أصلًا.
قدَرُنا أنْ نبدأَ حياتَنا بمخاضٍ نهيمُ به بَيْنَ الأفلاك من عالَم إلى آخر لِنتكيَّفَ مع ارتجالِ الحياة، نبدأ كفاحَنا الأوَّل بمحاولات عظيمةِ الأمَل كثيرةِ الوجَل، لِنتشبَّثَ بضخِّ النبضات لِنَشْرِ النُّور في أوصالِنا.. نحنُ لا نتذكَّر حياتَنا كأجِنَّة ولا نعْلمُ كيف سيكُونُ البرزخُ.. تلك الفلسفةُ التي تجعلُ حاضرَنا هو المكانَ والزمانَ الوحيدَيْنِ اللَّذيْنِ نستشعرُهما، ورغم ذلك نعتنقُ اليقينَ والإيمانَ في أرواحنا، فلا يتذكَّر الإنسانُ مخاضَ العُبور ولا عقَباتِه لِيُكملَ المَسِيرَ.
وسنظلُّ على مدى أعمارِنا نكافحُ في شتَّى الميادين بشراسة، والحاذقُ مِنَّا سيتخيَّر بعدها ما يستحقُّ النضالَ من أجْلِه.
دائمًا أشعرُ بأنَّ الوجعَ والفرحَ صنوان، فنحنُ نحزنُ لِنفرحَ، ونفرحُ لِنتألَّمَ، نُحلِّقُ بأحدِهما لِيرتفعَ بنا تارةً ولِيهبطَ بنا في الآخر تارةً أخرى.. ستستنزفُ طاقتَك في هذه الرحلة، فالاستقرارُ ليس مطلقًا في المعادلة الكونيَّة التي خطت بها أقدارنا، هذا التواترُ الكونيُّ الذي يجعلني في مرحلةِ قناعة ورضا بأنَّه تسلسلُ المسلَّمات.. منذُ الوجودِ تُسجِّلُ فيه آمالُنا انتكاسةً لِنُحرزَ لذَّةَ انتصارٍ على الحياة.
على قَدْرِ شراسة نضالِكَ سيكُونُ انتصارُكَ، وعلى قَدْرِ وجَعِكَ ستأتي بهجتُكَ، دائمًا ترجَّلْ وكأنَّكَ على موعدٍ مع السَّعادةِ وبرِّ السَّكِينةِ وتأكَّد بأنَّ القادمَ أجملُ.


د. رقية بنت إسماعيل الظاهرية
طبيبة وكاتبة عُمانية