إن عبقرية الأمة العربية في عقيدتها الأصيلة ونزوعها للخير تشبه في عطائها الزهر ، وهي رحيمة تضمّ الجميع كالرحم ، وقديماً أطلق اسم صبأ على من أسلم ومنها صبا يصبو. والصِّبا ... مقتبل العمر وربيعه ، والصَّبا أيضاً ريح تهبّ من ناحية الشرق .ونترك الكلام للحروف والكلمات لوحدها نجدها تتقارب مع بعضها البعض فالحَصان بفتح الحاء العفيفة التي حصَّنت نفسها من الزلل وجمعها حواصن، والحَصاة الفهم وقيل العقل وهو أيضاً يعصم صاحبه من الزلل ، وجاء في كتاب البصائر والذخائر لأبى حيان التوحيدي (ت414ه) تجميع لطيف لحكم ثابتة وفيه يقول أبو العباس ابن سريج : "من أنكر الحسن أنكر نفسه، ومن أنكر العقل أنكر صانعه، ومن أنكر الغيرة أنكر أباه وأمه، ومن أنكر خير الإجماع أنكر نبيه ، ومن أنكر عموم القرآن أنكر حكمته، ومن أنكر الواحد أنكر الشريعة ، ومن أنكر اللغة أنكر المحاورة".
ولنتوسع في البحث والتنقيب لنجد أن سحر اللغة لا يوجد في تركيب الكلمات بل في الحركة المضافة إليها، وحتى الحرف الواحد ، فهو نبع عبقرية وعطاء. وليجرب واحدنا الحركات بلسانه وليدرك كنهها بعقله ، فالفتحة الحاصلة من ركون اللسان تعبّر عن السكون كما يعبّر الفعل الماضي الذي ما ينتهي غالباً بالفتحة عن انتهاء الفعل وسكون حركته . والكسرة الصادرة عن صدور الصوت بكسر الشفتين ورجعهما تعبّر عن النسبيّة أو عودة الحال إلى الذات. وآمل أيضاً أن يجرب واحدنا ذلك ويضيف لوحده حرف الجر ( من ) إلى كلمات : عقلي و قلبي و روحي و أعماقي و كياني وحتى من جيبي أيضاً. والضمة الحاصلة عن تدافع الصوت عند خروجه تعبّر عن الفعالية المتواصلة والدائمة ، فالفعل المضارع ذو فعالية متواصلة ويُعرَبُ مبدئياً بالضم كالفعل ( يكتبُ ) ، فإن أردنا إيقاف الفعالية بدّلنا الضمة بالسكون ( لم يكتبْ ) وحتى لو أمرناه بالكتابة فهو قبلاً لم يكتب وربما لا ينفذ ما نأمره به، والفاعل مرفوع ومتحرك، ونرى أن المفعول به لكي يحتمل فعل الفاعل يعرب بالفتحة وكذلك الفعل الماضي يبنى على الفتح ، أما الأمر والنهي فيجزمان "من الجزم والحزم والأمر".ويشدنا العربي القديم لنشاركه لعبة تغيير الأحرف ، والتغيير هنا لحرف واحد وسنجد رائعة جديدة، فالإبهام هو الغموض ، وتتناقض الكلمتان مع الذكاء و كلمة إبهام مشتقة من (بهم) وهذه حاصلة من أصل "بها "، وعندما أبدل حرف الألف إلى ميم - وهذا الحرف بحسب مخرجه من الفم يفيد الحدودية والانغلاق - فيحّول (بها) الإيجابية ، ومنها بها البيت أي وسع والبهو والبهاء والحسن ، إلى بهم السلبية والبهيم ، ودليلٌ بهيمٌ لا نور فيه والبهيمة الدّابّة، والأبهم الأصْمَت. وكلمة غموض مشتقة من غمّ مع إضافة (الضاد) وغموض العينين، والظلمة والغم والحزن، أليس في الغموض ظلمة وحزن؟! لننتقل إلى الدعابة في لغتنا ففي رواية قديمة أن محمد بن صفي الدين الأصفهاني الملقّب بالعماد الكاتب (ت597ه) رأى صديقه عبدالرحيم بن علي اللخمي المعروف بالقاضي الفاضل (ت596ه) فداعبه العماد وقال له (سر فلا كبا بك الفرس) ، وجاراه الفاضل في دعابته وببديهته الحاضرة أجابه : دام على العماد.
لربما سئلت أين الدعابة... فأجيب فليحاول واحدكم قراءة التعبيرين بالعكس فسيجد أن قراءتهما على أي وجه تكون الحروف ذاتها والمعاني ذاتها.
ولنتابع الدعابات في شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي حيث يقول : " شمس الدين محمد بن علي بن محمد بن محمود بن يحيى بن عبد الله بن منصور السلمي الدمشقي الحنفي المعروف بابن خطيب زَرْع ... ومن شعره :
وأشقـر في وجـهـه غـــــــــــرة كـأنـها في نـورها فـجــــــــــــــر
بل زهرة الأفق لأني أرى من فوقها قد طلع البدر
وله فيما يقرأ مدحاً فإذا صُحِّفَ كان هجواً:
التاج بالحق فوق الرأس يرفعه إذ كان فرداً حوى وصفا مجالسه
فضلاً وبذلاً وصنعاً فاخراً وسخا وأسـال الله يـبـقـيــــه ويـحـفـظـــــــه
وتصحيفه هجو كما قال :
الباخ بالخف فوق الرأس يرقعه إذ كان قردا حوى وضعاً مخالسه
فضلاً ونذلاً وضيعاً فاجراً وسخا فأسأل الله ينفيه ويخرسه".


د.أحمد بن عبدالرحمن بالخير
كلية العلوم التطبيقية بصلالة
[email protected]