أيها الإخوة الأعزاء.. لقد استعرضت مع حضراتكم في لقاءين سابقين ما يقوم به البعض من أخطاء فادحة في الطرقات ظنا منهم أنها لهم وحدهم، مما يجعلهم يرتكبون تلك الأخطاء التي قد تؤدي بحياة الناس أو بعض أعضائهم أو أموالهم أو مركباتهم، مع العلم أن يقوم بمثل تلك الأخطاء من جراء تهوره واستهتاره هو أول من يخسر، ولهذا أقول له: إن الله تعالى خلقنا في الأرض لنعبده ونوحده، فعبادة الله تعالى هي الهدف الأسمى من خلق الإنسان، بالإضافة إلى أنه تعالى خلقنا لنعمر الأرض، وأمر الله تعالى عباده أن ينتشروا في أرضه يكتسبوا أرزاقهم ويسعوا وراء عيشهم، فيكف بك أيها الإنسان تنسى أن الله رقيب عليك، وأنه مطلع على أعمالك ثم تتغطرس وتؤذي نفسك وتؤذي الناس معك وهم يسعون على اكتساب أرزاقهم ويكدوا في سبيل معيشتهم، ثم تأتي أنت في لحظة تهور فتذيقهم ويلات الآلام إما بموت أب يفارق صغاره، أو موت أم ينتظرها أطفالها، أو فقد عزيز غالي على أحبابه، فهل هذا لأنك تظن نفسك أكثر مهارة من الأخرين، فإذا كنت كذلك ـ جدلًا ـ فاعلم أن من أعطي هذه النعمة ينبغي عليه أن يشكر الله عليها بأن يتجن أخطاء الآخرين، وأن يساهم في عدم الأخطاء لا العكس، فإذا كنت ترى نفسك أكثر ذكاء أو دهاء أو مهارة ممن سواك فلست في منأى عن قدر الله، واعلم أنه هذه المهارة نعمة اختصك الله بها وهو سبحانه سائلك عنها، فالله عزوجل هو المقسم والمعطي، أم أن ما تقوم به هو عدم مبالاة بما أنت فيه من نعمة وفضل من ربك، فأنت بهذا تتبطر على فضل ربك، فاحذر فإن هذا الأمر سيعود عليك، بالبوار والأضرار، وربما جعلك في الأخرة من أهل النار، أم أن هذا التهور في الطرقات مما يعود عليك وعلى غيرك بالضر والإفساد، هو من المرح والهزل، وأقول لك احذر من هذا فإن هذه اللامبالاة وهذا المرح الذي ليس له مبرر عاقبته وخيمة ونهايته أليمة.
فيا أخي:(عليك بإصلاح نفسك وتخلق بالأخلاق وتوج نفسك بالعدل والعفة والصدق والنجدة والحلم والصبر والرحمة والحكمة التي تضع الأمور في مواضعها، وأخرج للناس من نفسك حسنها، واجتنب سيئها وأخرجها من أضداد ذلك، فإنه لا غنى للعاقل في معاشه عن ذلك، وعليك أخي بحفظ حقوق الناس من دم ومال وعرض ونحوه، وارفع المظالم من جانبك عنهم، وإلا هلكت وهلك العالم، واختل نظامه، فبذلك نجاة النفس من الهلكة في الدنيا والآخرة، فأين أنت من معرفة الخالق سبحانه وطاعته) (الانتصارات الإسلامية في كشف شبه النصرانية 1/‏ ،262 بتصرف)، فإننا نحن المسلمون يجب علينا التخلق بديننا، فالمؤمنون الحقيقيون يرعون حق الله تعالى ويعظمون شعائره ويقفون عند حدوده ويرعون حقوق الناس، ويتقون الله فيهم لا سيما من يشاركهم في الطرقات، فهم يرغبون في تحقيق الأمن والسلم والتسامح، ويحبون العفو عند المقدرة كما كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يفعل، فالسلم السلم والتؤدة التؤدة في الطرقات.
فيا أخي حين تقود مركبتك بذلك التهور الفاضح والبطر القادح والشر الفادح يغيب عنك ضميرك الحي، فتؤذي بدونه كل حي، ومن هنا فإنني أميل إلى مخاطبة الضمير الإنساني ودعوته إلى رعاية حقوق الناس ومعاملاتهم بالعدل، نعم إزاء إنسانية كادت تستكمل حظها من العقل والإدراك، أخاطب فيهم ضمائرهم وأطلب إليهم إقامة حياة اجتماعية طيبة يؤدي فيها الفرد حقوق الآخرين، ألم تعلم أخي أن هذا من قبيل سلب الناس نعمهم وأعمارهم أحياناً، ومن حقهم أن يستمتعوا بفضل الله عليهم ونعمه، ويعيشوا أعمارهم وحياتهم، فكيف يطيب لك سلبهم منها “وإن كثيراً من الناس قد يقع فيها، فلهذا حذر رسول الله صلوات الله وسلامه عليه من هذا، لا سيما إذا كان فيه قطع لحق الآخرين، إن هذا من أظلم الظلم فيما يتعلق بظلم الناس للناس، فهذه يترتب عليها حقوق الناس، وقد جاء في صحيح مسلم:(من اقتطع حق امرئٍ مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان)، وفي رواية:(فله النار، فقالوا: وإن كان شيئًا قليلًا يا رسول الله؟ قال: وإن كان قضيباً من أراك) يعني: وإن كان سواكاً. وجاء وفي خطبته (صلى الله عليه وسلم) في حجة الوداع لما سألهم وقال:(أي يوم هذا؟ أي شهر هذا؟ أي بلد هذا؟ يسألهم وفي كلها يقول: أليس الشهر الحرام؟ أليس البلد الحرام؟ أليس يوم الحج الأكبر؟، ثم قال: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ فجعل الأموال والأعراض والدماء كلها محرمة لا يجوز تناولها بشيء، وصار يكرر ذلك صلى الله عليه وسلم ويقول: ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد!).
(فالمقصود أن حقوق الناس ليست بالسهلة، ولهذا قالوا: عند المحاسبة والجزاء حقوق الناس مبنية على المقاصة وعلى الاستقصاء لا يترك منها شيء، وهو حقوق الناس بعضهم مع بعض، لا يترك منها شيء، فلابد أن تقتص، ولابد أن تستقصي، فكل حق لإنسان لابد أن يؤدى يوم القيامة، وتأديته بالحسنات والسيئات، يؤخذ من حسنات الظالم ويعطى المظلوم حتى يستقصي، فإن انتهت حسناته أخذ من سيئات المظلوم ووضعت على الظالم حتى يقضى حقه، لا يوجد خلاص أبداً، ثم يشدد عليه العذاب، نسأل الله العافية) (شرح فتح المجيد 5/‏ 8).
نعم.. نسأل الله العافية. أترضى أيها الأخ العاقل أن يؤتى بك يوم القيامة إذا تسببت بضرر أحد حتى مات بسب حاثك أو تهورك أو أوقع عليه أي ضرر بلا ذنب جناه، أن ينادى بك على رؤوس الأشهاد فيأخذ منك حقه، فـ(عن عبد الله بن السائب قال: سمعت زاذان يقول: قال عبد الله بن مسعود: يؤخذ بيد العبد والأمة يومَ القيامة، فينادي منادٍ على رؤوس الأولين والآخرين: هذا فلان بن فلان، من كان له حق فليأت إلى حقه”، فتفرح المرأة أنْ يَذُوب لها الحق على أبيها، أو على ابنها، أو على أخيها، أو على زوجها، ثم قرأ ابن مسعود:( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ) (المؤمنون ـ ١٠١)، فيغفر الله تبارك وتعالى من حقه ما شاء، ولا يغفر من حقوق الناس شيئًا، فينصبُ للناس فيقول:(ائتوا إلى الناس حقوقهم! فيقول: رب فنيت الدنيا، من أين أوتيهم حقوقهم؟ فيقول: “خذوا من أعماله الصالحة، فأعطوا كل ذي حقّ حقه بقدر مَظْلمته).
(فإن كان وليًّا لله، ففضل له مثقال ذرّة، ضاعفها له حتى يُدخله بها الجنة.. ثمّ قرأ علينا:( إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) (النساء ـ ٤٠)، وإن كان عبدًا شقيًّا، قال الملك: رب فنيت حسناته، وبقي طالبون كثير! فيقول: خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته، ثم صُكُّوا له صكًّا إلى النار) (تفسير الطبري، جامع البيان، ت: شاكر 8/‏ 363).
وأخيرًا.. أما كفى استهتارًا.. أما كفى قتلًا وموتًا.. أما كفى مصائب يصطدم بها من ذنب له، أما كفى ما رأيناه وما قاسيناه من فقان أحبة وغوالي.. ألا بلغت.. اللهم فاشهد!.



* محمود عدلي الشريف
[email protected]