في ظل تحوُّلات اقتصادية واجتماعية وثقافية وأمنية بات يعيشها الإنسان المعاصر بفعل الطفرة المادية ودخول التقنية والمنصات الاجتماعية في حياة المجتمعات، الأمر الذي أوجد حالة من التداخل في الأفكار والمعلومات وانتشار الإشاعات والأفكار المغلوطة، وما فرضته من تحدِّيات أمنية على حياة الإنسان، في وقت لم تعد فيه مسألة الأمن حالة خاصة في دور الأجهزة الأمنية والشرطية والعسكرية، أو سلوكا مرتبطا برجل الأمن والعسكري والشرطي أو المكلف بالقيام بمهام أمنية لحماية الأشخاص والممتلكات والمؤسسات، بل تعدت المسألة الأمنية كل التقديرات الكمية والنظرات السطحية والأفكار التقليدية إلى دخولها في كل مجالات الحياة، وارتباطها بمُكوِّنات الإنسان وقناعاته ومشاعره وأفكاره ورغباته وطموحاته واحتياجاته وأولوياته وسلامه الذاتي وتصالحه مع الآخرين، كما اتسعت مبادئ الأمن لتشمل الأمن النفسي والاجتماعي والأخلاقي والصحي والفكري والأسري وغيرها.
ولمَّا كان الأمن بهذه الصفة من العمق والاتساع والشمولية والتناغم مع مُكوِّنات الفرد النفسية والفسيولوجية والسيكولوجية، وهو حالة من التوازن تعيد في الإنسان مسارات البناء الذاتي وفق منهج الوقاية والالتزام والاحتواء، فإن الثقافة الأمنية بما تحويه من مفاهيم ومرتكزات وأطر وقِيَم ومبادئ ومهارات وأخلاقيات تعمل ـ إن وجدت لها برامج التطبيق المناسبة والبيئات الإيجابية والأدوات الراقية ـ على إعادة هندسة المُكوِّن الإنساني وصناعة روح التغيير فيه لضمان توجيه ملكاته الفكرية والنفسية والذهنية والإرادية نحو المحافظة على حياته بما يضمن تجسيد هذه الأبعاد في واقعه، والحدِّ من تأثيراتها السلبية على حياته، وبالتالي كيف يمكن بناء ثقافة أمنية مجسدة للظروف والأحداث، وترسيخ معطياتها وتعميق حضورها في مواقف الفرد اليومية، بما يجنبه الكوارث والأمراض والسلبيات ومعكرات المزاج التي قد تضر بصحته وأمنه الشخصي وأمن أسرته وعائلته ومجتمعه ووطنه، وفي الوقت نفسه كيف يمكن أن يحافظ على درجة التوازن في سلوكه الاجتماعي، ويقلل من الصدمات السلبية على صحته النفسية، فيمتلك حصانة ذاتية ترتقي به فوق الصدمات، وعندها يصبح نمو هذه الثقافة أكبر من كونه حالة مزاجية أو سلوكا وقتيا يرتبط بواقعة أو حادثة، فهي بذلك ثقافة أصيلة متجددة لوقاية الإنسان من الوقوع في مصيدة المنصَّات والمشعوذين والدجالين، أو الجري خلف ناشطي الدعاية والإعلانات الذين يستدرجون الناس ويفرغون جيوبهم بدعايات وإعلاناتهم، فهي بذلك ممارسة أصيلة تمنع الفرد من الوقوع في المحظور أو تجنبه المشاركة فيه، وهو أمر لا يستقيم إلا في ظل ثقافة أمنية واعية، يدرك خلالها ما له من حقوق، وما عليه من واجبات ومسؤوليات والتزامات، مبنية على قواعد علمية متينة، ومنهجيات عملية دقيقة، ونقل المعلومات من مصادرها الرئيسة، واختيار وانتقاء مصادر المعرفة التي يحصل من خلالها الفرد على ذوق العبارة، وصدق المعلومة وتجدد المعرفة المناسبة، بحيث يقرأ فيها مساحة أوسع من الأمان والاستقرار والسلامة، فيسلك فيها مسلك المتأمل الحذر، والمتمعن الحصيف منعا من وقوعه في مصايدها أو تعرضه لتشوهاتها، ولا يكفي أن يتعلم ما يجوز منها وما لا يجوز، بل أيضا يدرك الصورة القانونية والتشريعية والضبطية وما فيها من جزاءات وعقوبات، وتعزيز ثقافة الحس الأمني الذي يضع الفرد أمام امتلاك حدس التوقعات الأمنية والتنبؤ بالظروف وامتلاك سيناريوهات العمل وإجراءات التعامل معها، هذا الأمر من شأنه أن يقلل الممارسات التعسفية أو المتشددة التي قد يقرأ فيها الفرد مزيدا من الحرص والاهتمام ولكنها تحمل أيضا عوامل التشدد والوسوسة، وبدلا من أن يتجه عمله لمزيد من الأمن والسلامة يقع فريسة تأثير الأشخاص والمنصَّات الاجتماعية وضعف هاجس الاهتمام لديه، فيصبح ضحية تأثير الأشخاص المؤثرين في منصَّات التواصل الاجتماعي أو رفقاء السوء أو غيرهم دون إدراك للعواقب الناتجة عنها، أو أن يمارس الفرد بعض العادات التي يجد فيها مساحة حرية شخصية، وفرصة مرتبطة بمساحة حضوره في المنصَّات الاجتماعية، في حين أن نتائج هذا السلوك قد تظهر تأثيراتها بشكل أوضح على المدى البعيد، فمثلا حالة الخصوصية في استخدام منصَّات التواصل الاجتماعي والتي بدأت تفتقر للتوازن والنزاهة والذوق العام في ظل موضة مشاهير “السوشيال ميديا” وهاجس الشهرة لتحقيق مكاسب مادية.
وحتى تكون الثقافة الأمنية قائمة على وضوح المفاهيم ووحدة البناء الفكري، يأتي التأكيد على أهمية بناء هذه الثقافة في حياة الأجيال منذ نعومة أظافرهم في بيئة التعليم ما قبل المدرسة ثم التعليم المدرسي لتتسع وتتعمق وتتدرج من الفرد في مختلف مراحلة العمرية، لتتكون لديه ثقافة أمنية واسعة، تضمن المحافظة على أمنه الخلقي وعبر جملة المحكّات والأطر التي يلتزمها في سلوكه العام، أو الأمن الاجتماعي ووقايته من كل التحدِّيات التي باتت تؤثر على حياة الأسرة وتعمل على إبقاء مسارات التناغم والتكامل والحوار الأسري والاجتماعي والعلاقات الزوجية والأسرية وعلاقات الأرحام والإحسان والبر بالوالدين واحترام حق الجار وغيرها، بالإضافة إلى امتلاكه ثقافة أمنية اقتصادية تصنع لوعيه بالثقافة الشرائية والادخار وترشيد الإنفاق اليومي وتصحيح المعادلة الاستهلاكية، والتزام مبدأ الأولويات وفق الحاجة، والتقليل من الاستنزاف والهدر في الموارد، والمحافظة على درجة الملاءة المالية حاضرة، واستدامة قِيَم النفقة والبر والإحسان، لِما يمثله ذلك من محصنات للفرد من الإسراف والتبذير وترقية أطر التعامل مع تأثيرات التضخم وارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة.
من هنا تفرض آليات التعامل مع هذه التحدِّيات الأمنية مسارات متجددة تعيد توجيه الفرص في مستقبل حياة الأبناء، فالبُعد الصحي يستهدف صناعة توازنات صحية في حياة الفرد من الغذاء الصحي السليم والممارسة المنتظمة للنشاط البدني، خصوصا في ظل ما تشير إليه مؤشرات وزارة الصحة حول الخمول البدني وقلة الحركة أو تدني ممارسة الأنشطة الرياضية والغذاء غير الصحي أو عدم الاستخدام السليم للدواء والعلاج بحسب وصفات الطبيب المختص، والأمراض المزمنة وغير المعدية التي باتت تشكل خطرا على حياة الفرد، خصوصا ما يتعلق بأمراض القلب والسكري والضغط والكولسترول في الدم وغيرها. ويأتي الأمن النفسي استراحة مواطن في مواجهة ارتفاع درجة الخوف والقلق والهواجس الشخصية والسلبية والتفكير غير الناضج والغضب والضيق والهموم التي باتت تعكر أمزجة الناس وسلامهم الداخلي وشعورهم بالأمن والأمان، كما أن الأمن الاقتصادي في ظل الجرائم الالكترونية والاحتيال والابتزاز والمحافظ الوهمية يطرح على المواطن امتلاك أدوات الوعي في التعاطي مع هذه التحدِّيات، كذلك تطرح المشوهات الفكرية والقيمية التي باتت تؤثر في التكوين الاجتماعي كالإلحاد والنسوية والأفكار التحريضية والنزعات الأيديولوجية صورة أخرى من الوعي الأمني الذي يمتلك فقه التعامل مع هذه الأفكار والمروِّجين لها، بالإضافة إلى الأمن الأخلاقي في ظل ما بات يؤثر على أخلاق الإنسان العُماني وهُويته وقِيَمه ومبادئه من مغريات الحياة، وحالة عدم الاحتشام والسقوط غير الأخلاقي، وما يتبعه من آثار سلبية على حياة الفرد وتكوينه الاجتماعي إن لم يمتلك حيالها أدوات التهذيب والتصحيح والردع، لتتجلى هذه المقاربات في كل الأبعاد الأخرى المرتبطة بأمن المواطن وسلامه الداخلي، وعندها سوف تتحول الأفكار السلبية والقناعات غير السارة إلى مساحة احتواء تستنطق في الفرد روح الإيمان والمبادئ والثقة والأخلاق، وتستنهض فيه الدوافع والهمم والرغبات والمبادرات والإنجازات والتضحيات والآمال العريضة التي تفتح له أرحب الآفاق لحياة متجددة وطموحات متعاظمة. أخيرا، يبقى تنشيط الثقافة الأمنية في حياة المواطن بحاجة إلى ضمانات تبدأ من مؤسسات التنشئة الاجتماعية والتعليم والإعلام والأسرة عبر إدماجها عمليا في المناهج الدراسية والأنشطة الطلابية والمواقف الحياتية والتطوعية أو في إيجاد مساقات تدريسية متخصصة تعالج قضايا الأمن المرتبطة بالفرد بشكل مباشر، الصحية والنفسية والاجتماعية والأخلاقية، أو كذلك من خلال توفير القوانين والتشريعات الداعمة لجودة الحياة، سواء في الحفاظ على سلامة الطلبة من الحوادث المدرسية داخل المدرسة أو خارج فناء المدرسة (حافلات المدرسة) أو حماية الفرد من الظواهر السلبية مثل العنف والتنمر، أو كذلك صقل قدراته وأفكاره وتمكينه من التعامل الجاد مع كل هذه المواقف والمتغيرات والظروف، بما يعيد إنتاج المواطن بشكل أفضل وفق معايير السلام الداخلي والحس الأمني والصحة النفسية وبناء القوة الداخلية والتحصينات الذاتية في مواجهة تراكمات الواقع.



د.رجب بن علي العويسي
[email protected]