يصدأ القلبُ أحيانًا بعبثيَّة الأحوال، وما ترميه أمواجُ الزَّمن الغاضبة من سيناريوهات المَرضَى، قِصَّتي اليوم مرَّت عليها سنواتٌ ولا أعْلمُ كيف انتهت.. لكنَّها ما زالت تعزفُ ترنيمةً حزينةً بجوارحي كلَّما مرَّت بذاكرتي تُقنعني بمدَى رداءةِ هذه الأيَّامِ وبشاعةِ العالمِ. توقَّعتُ أنَّ كلَّ ما يأتي من عبَق طفولتِنا سيُحضرُ معه الفرحَ ومشاكساتِ المدرسةِ وبراءتَها العذبة.. هكذا نرسمُ ملامحَ المراجعين والمَرضَى بما يحملون لَنا من ذكريات. أسهبتُ بالحديث بكلِّ هدوءٍ ولا أعرفُ إنْ كان هذا الهدوءُ عن جهلٍ أمْ عن وعيٍ، ولكنَّه هدوءٌ أرعنُ يُشبِه همهماتِ العجائز: “لقَدْ زوَّجني والدي لرجُلٍ كبير في السِّنِّ ستِّينيٍّ يعملُ سائق أُجرة، وقد تزوَّج قَبلي عدَّةَ مرَّات، تزوَّجني لأخدمَه. ولكنْ بعد سنةٍ من الزواج أصبحَ طريحَ الفِراشِ وأنا التي أعتني به، رزقني الله هذا الطفلَ، ولكنْ اكتشفْنا مؤخرًا بأنَّ زوجي مُصابٌ بمرَضِ الإيدز ونقَلَ العدوَى لِي ولا أعْلمُ إذا كان ابني مُصابًا وأريدُ أنْ أفحصَه” تكملُ حديثَها وتقولُ: “لستُ قلقةً على صحَّتي سأذهبُ لشيخٍ يفكُّ السِّحرَ ويعالجُ هذا المرضَ في أحَدِ البلدانِ المجاورة وقَدْ جهَّزتُ للسَّفر”. كَمْ هي فقيرةٌ أبجديَّةُ الكلماتِ لِتعبِّرَ عمَّا اعتراني من حنقٍ وغضبٍ وحزنٍ وأنا أمام فتاةٍ لَمْ تُزهرْ شتلاتُها في الحياة وها هي تلفظُ أنفاسها الأخيرة.. بهدوءٍ وكأنَّه هديرٌ صاخبٌ لمركبٍ مُتداعٍ غير صالح للإبحار يختبئ في ناصية الميناء، أقْعدَها غدْرُ الزمانِ بإعاقةٍ بسيطةٍ فقدَّمتْ قربانًا لِماردٍ أشْعثَ ينشبُ مخالبَه في المتبقِّي من صحَّتها لِتُكملَ العُمرَ بجرعةٍ زائدةٍ من المرارةِ والحزنِ. اُصبْتُ بصمْتٍ مطبقٍ ولا يوجد ما يُمكِنُ أنْ أقولَه، تاهتِ الحروفُ مِنِّي ولَمْ أنطقْ بكلمةٍ وأنا التي لا أتَوانَى عن قولِ الحقِّ ونصرةِ مظلومٍ أو مستضعَفٍ، كيف لا؟ وهي مريضتي.. بالعادةِ يجنُّ جنوني إذا جاءتني مريضةٌ تعرَّضتْ لأيِّ نوعٍ من العنفِ... ولكنْ بالفعلِ لَمْ أستطعْ أنْ أخترقَ حاجزَ الكلماتِ، واستهجَنْتُ وجومي في التَّعاطي معَها، شَعرْتُ بانكسارٍ قَبْلَ أنْ أدخلَ المعركةَ كعَلَمٍ مزَّقتْهُ الرياحُ وما زال يُرفرفُ على ناصيةِ هزيمتِه.. راودَتْني أفكارٌ أنَّه يَجِبُ أنْ تخضعَ للعلاجِ، والمَرضُ يُمكِنُ السيطرةُ عليه، وهناك الكثيرُ ما يُمكِنُ فِعلُه للتعايش معَ المَرضِ، لكنْ من شدَّةِ وجَعي وغصَّتي، أحلْتُها للقِسْمِ المُختصِّ، وأعْلمُ أنَّهم سيقومونَ بكُلِّ ما يلزمُ، لكنِّي لسْتُ متأكدةً من قناعتِها بالعلاجِ وكيف ستتخلَّى عن الأفكارِ المُسمّمةِ والعلاجِ بالسِّحر. براءةُ الفتاةِ واستسلامُها لحكايتِها أشْعرَتْني بأنَّنا نعيشُ في زمنٍ لا يُشبِهُنا، بَلْ يُشبِه الأوغادَ... كبرتْ هذه الفتاةُ لِينتظرَها المستقبَلُ على طبقٍ من وطأةِ المَرضِ والجهلِ والفاقةِ وكأنَّ الحياةَ تفاوضُ إعاقتَها وقلَّةَ حيلتِها بزواجٍ لا يَمُتُّ لعدالةِ السَّكِينةِ والرحمةِ بزواجٍ فقَدَ قدسيَّتَه وماهيَّتَه على شُبَّاكِ الذُّلِّ والهَوانِ. القِصَّةُ أعادتْنِي لِزمَنٍ تُباعُ فيه النساءُ بأزهدِ الأثمانِ، وتُقدَّرُ قِيمتُها بمدَى صلاحيَّتِها الجسديَّةِ، ولِسُوءِ حظِّ هذه الفتاةِ الجميلةِ وُلِدَتْ بقُصورٍ طفيفٍ فَبيعَتْ بثَمنٍ بَخْسٍ لِيقْبضَ ثمنَها مَنْ يُريدُ التخلُّصَ من رعايتِها لِتَهْوِيَ في دوَّامةٍ شعواءٍ بلا حوْلٍ ولا قوَّةٍ، فتُعيلَ ماردًا اغتالَه الزمنُ، تزوَّجَها لِيتَّكئَ على ركنٍ مُتداعٍ ضعيفٍ فتخدمَه لِمَا تبقَّى من عُمرِه ويسرقَ الباقي من عُمرِها. استرجعتُ شيئًا من سَكِينتي بعدَها وتذكَّرتُ ذلك الطفلَ الجميلَ وكأنَّه يُعيدُ لِي شذراتِ الأملِ في هذه القصَّةِ التي لا وجودَ للأحلامِ فيها.. تابعتُ الحالةَ بعدَ عدَّةٍ أيَّامٍ وعلمتُ بأنَّ نتيجةَ الطفلِ سلبيةٌ وهو غيرُ مُصابٍ، فرحتُ ببصيصِ الأملِ في أُفقِ هذه الحكايةِ وكأنَّه فتيلُ سراجٍ في عتمةٍ ظلماءَ وأُدركُ بأنَّ كلَّ ما في هذه الحياةِ مُقدَّرٌ فتمنَّيتُ أنْ يستيقظَ هذا الطفلُ على نسَماتٍ من الفرحِ.

د. رقية بنت إسماعيل الظاهرية
طبيبة وكاتبة عُمانية