ثانيا: “سألقاك هناك” قالب روائي متماسك وتدفق متقن في السرد
رفيقة رحلتي في مقعد الطائرة خلال ساعات التحليق الست بين الدوحة وبانكوك، كانت رواية الدكتورة رشا سمير، “سألقاك هناك”، وقد تعرفت على الأستاذة رشا التي شيدت لها مكانة رفيعة في عالم الكتابة رواية ومقالا، في أحد مقاهي القاهرة، قبل أسابيع قليلة جدا، وواظبت من لحظتها على قراءة مقالاتها التي تميزت بالجرأة والعمق والشمولية والاستيعاب لقضايا ومشكلات مجتمعها والتحوُّلات والتطورات التي يشهدها العالم، والمعضلات والمآزق التي تمرُّ بها الأمَّة العربية، وتناولت موضوعات غاية في الأهمية آخذة أبعادا ثقافية وسياسية واقتصادية واجتماعية، تأكيدا على الرسوخ والتمكن في عالم الكتابة والسعة والتبحر في الثقافة، واستوعبت من بين تلك المقالات لمحتوى أفكارها ومبادئها الحرة، وشخصيتها القوية بدليل أنها جمعت بين الإبداع الأدبي والتخصص العلمي كونها إلى جانب أنها روائية وكاتبة، فهي كذلك “طبيبة أسنان”. وقد ظفرت بهذه الرواية كهدية ثمينة من الكاتبة، التي وعدتني بأن تهديني بقية رواياتها وإصداراتها في قادم الأيام، متطلعا إلى الحصول عليها قريبا. تتناول “سألقاك هناك”، واقع المرأة وحظوظها السيئة، التي ترسم أقدارها وتخطط لمستقبلها وتتخذ القرارات بدلا عنها، موروثات وتقاليد تتفوق على القوانين والمنطق بل وتتعارض وتخالف حتى رسالة ومقاصد وقِيَم الأديان... عندما ينظر هذا المجتمع إلى المرأة كونها مجرد عبء وعار، يجب الإسراع بالتخلص منها وقذفها نحو أول زائر إلى منزل أسرتها، أيا كان هذا الخاطب، عمره ومستواه التعليمي وسلوكه وسيرته وغايته من الزواج، كل ذلك لا يهم، المهم أن أسرتها تخلصت من حملها الثقيل، فهل تستطيع المرأة أن تأخذ زمام أمورها بيدها، أن تغير واقعها المحتوم... في هذه الرواية تحفر “رشا سمير”، عميقا في واقعنا وتسعى لإحداث ثغرة أو ثغرات يمكن العبور منها إلى آفاق أرحب تسهم في حلحلة الواقع والقدرة على تناول قضايانا ومشكلاتنا بحرية وجرأة ووعي لتحقيق التغيير والإصلاح، وصفت الرواية بكونها “تجمع فيها الكاتبة بحرفية بين الواقع المربك الحزين، والخيال الغامض الأثير”. “عرفت وأنا في العاشرة من عمري معنى أن يقتل الفقر كل الأحاسيس الأخرى، فكنت ابنة لأب يتحول إلى وحش كاسر حين تقسو عليه الحياة ولا يستطيع أن يتحمل أعباءها.. وأُم لم تتعود أو تتمنى أن تسمع كلمة إطراء ولا عشق، وظلت كل أمنياتها أن توفر لنا طعام اليوم وسقفا يسترنا في آخر الليل..” من المتسبب في هذا الواقع المرير؟ هل المجتمع بتقاليده وفكره المتحجر، أم النظام السياسي المتسلط والفاسد، أو الفهم المغلوط لرسالة ومقاصد الدِّين..؟ “يبدو أن النساء رغم كل الغيرة التي قد تفرقهن، تجمعهن دائما الصفات الإنسانية المتنحية مثل الضعف والقهر وقلة الحيلة..”، هل الخلاصة أو النتيجة التي توصلت لها الكاتبة، يمكن الاطمئنان إليها والتسليم بها، وتستند إلى تجارب وبحث ودراسة علمية ونماذج من الواقع، أم مجرد شعور وإحساس وانتصار المرأة إلى قضايا المرأة؟ أراني في هذا الرأي أختلف مع “رشا سمير”، فكما أن الرجال يوقعون الأذى ويفسدون ويسيئون، فكذلك النساء يحصل منهن الإضرار والظلم والتسلط على النساء والرجال سواء بسواء. لماذا استدعت الرواية قلعة “آلموت” وجنة الصباح المزعومة، كحدث من التاريخ القديم، فأسقطته على عالم اليوم؟ هل أرادت البرهنة على أن تراثنا وتاريخنا وثقافتنا، حاضرنا وماضينا يعيد إنتاج نفسه، وبأن ممارسة الدجل والتضليل وإيقاع الناس البسطاء والمغلوب على أمرهم في فخ تصديق ما لا يصدق وتحويل المتحول إلى ثابت، كانت وما زالت جزءا من حياتنا؟... ومثلما آمن أتباع الصباح بجنته على اعتبار أنها ثواب الله وهبته، يمارس اليوم أدعياء الدين والمتحدثون باسم الله ذات الدور الذي مارسه الصباح قبل قرون من الزمن؟ “قرر مولانا أن يمنحني الجائزة.. لقد قرر أن يكافئني على انصياعي لأوامره، تلك الأوامر التي اعتبرها هو فوزا، واعتبرتها أنا هزيمة. فهو قد فاز بجندي مطيع وزاد أتباعه تابعا مخلصا استطاع أن يسحره بأفكاره وقضيته.. وأنا قد أصبحت إنسانا مهزوما مسكونا بصورة الرجل الذي أسقطه نصل سلاحي على الأرض مضرجا في دمائه.. حاولت مرارا أن أنسى تلك اللحظات.. ودعوت الله كثيرا أن أغرق في نوم عميق دون أن أصحو مذعورا على عينيه تصارعان الموت وأنفاسه تتحشرج وهو ينطق الشهادتين..”. الرواية من نوع الكتابات الجادة والرصينة وقد كتبت بلغة جميلة آسرة، ومفردات تصور الواقع الذي تتناوله وشخصياتها بدقة بالغة وتعكس براعة الكاتبة واضطلاعها بناصية اللغة التي تكتب بها “كم نشتاق إلى المستقبل ونهفو إليه، نحلم بأن نصعد درجاته متعجلين بالوصول لقمته باحثين عن النجاح وباحثين عن الحب وأحيانا باحثين عن أنفسنا حين يصعب علينا إدراك هويتنا...”. “هكذا أصبحت عودة أبي بعد طول غياب مثل البرد القارس الذي فتت حياتنا وألبسنا ثياب الصقيع.. وهكذا تمنينا مرة أخرى العودة إلى الأيام التي كنا نتصورها صيفا ألهبتنا فيه أشعة شمس الفراق.. عاد أبي أكثر قسوة وأكثر بخلا وأكثر تحكما..”. في “سألقاك هناك”، عوالم وفضاءات، أمكنة وأزمنة وشخصيات، طقوس وتضاريس، أمنيات تتحقق وأخرى تتبخر... كيف تمكنت “رشا سمير”، من مزج كل هذه المتناقضات وجمع المتفرقات وربط الماضي بالحاضر والتاريخ بأحداث اليوم... في قالب روائي متماسك أخاذ وممتع، وتدفق مريح وشيق في السرد.. “سوف نستكمل الطريق في اتجاه مستقيم نحو الطريق المؤدي إلى جبل دومافند، قمة سلسلة جبال البورز، وحينما نصل إلى مدينة الري، سوف نتجه منها إلى وجهة شاه رود، ثم سوف نتجه إلى منبعه الذي يتدفق نحو أعماق المضيق.. وصولنا إلى هذا المضيق يعني أننا على بعد أمتار من آلموت؛ لأنها قلعة عالية كبيرة تعلو صخرة مرتفعة ولا يمكن الوصول إليها إلا من خلال هذا الطريق الضيق فقط.. الحقيقة أنها ترتفع لأكثر من ستة آلاف قدم فوق سطح البحر”.. وصف دقيق لعالم بعيد، وبقعة جغرافية لا ينتميان بِصِلِة إلى بيئة وحياة الكاتبة، ولكنها مع ذلك تمكنت من توظيفهما في روايتها بدقة متناهية، وصفا وعرضا ومزجا مع شخصيات وأحداث الحاضر، وبحرفية متناهية لكي تحقق بغيتها وتصل بفكرتها إلى قرائها بجلاء ووضوح.. وقد نجحت بدون شك في ذلك.


سعود بن علي الحارثي
[email protected]