مما لا شك فيه أن التزام الشعوب والمجتمعات بالقِيَم والأخلاق هو الأساس المتين لبناء الحضارات، ونقصد بالأخلاق هي مجموعة الأقوال والأفعال المقبولة والمحمودة التي من شأنها أن تقيم مجتمعا متماسكا يحافظ كل فرد فيه على واجباته ولا ينتهك حقوق الآخرين. وقد يعدُّ البعض علاقة الحضارة بالأخلاق قضية جدلية فتصيب في عصر، وتخرج عن هذه القاعدة في عصر آخر، فبعض الحضارات قد استمرت رغم انتشار الانحلال الأخلاقي في مجتمعاتها، لكنني سأنطلق اليوم من مقال لأحد الزملاء الكتَّاب في إحدى الصحف الإماراتية الذي عدَّ الأخلاق أساسا لحضارة اليابان في هذا العصر، فقد نشر الكاتب المعروف: إيميل أمين مقالا تحت عنوان “اليابان والحضارة عبر الأخلاق” المنشور، يوم الأحد السادس من نوفمبر 2022م حيث قال: (... لكن الواقع هو أن البناء الأخلاقي والفكري للطفل الياباني، هو من سيمكن هذا البلد الآسيوي الفقير في موارده الطبيعية، من أن ترتقي معارج المجد، فالأخلاق أساس من أساسات صناعة الحضارات، والعهدة على الراوي أبو علم الاجتماع العربي، ابن خلدون.. تبدأ اليابان نسج خيوط الحضارة من عند سنوات الدراسة الأولى، حيث تدرس من الصف الأول الابتدائي إلى السادس منه، مادة منفصلة عن الأخلاق، تعلمهم وتدربهم على أفضل طريق للتعاطي مع الآخر، سواء كان من اليابانيين أو من بقية شعوب العالم. مادة الأخلاق هي التي رأى العالم انعكاساتها في الداخل الياباني بعد كارثة مفاعل فوكوشيما النووي، إذ لم تبدُ في الصورة معالم التزاحم أو مظاهر التدافع، بل نظام واحترام، جلد وصبر على الأقدار...) بالرغم من اتفاقي مع الكاتب القدير أن اليابان تعافت من جروح قنبلة هيروشيما بعقار لا يختلف اثنان على فاعليته، إنه عقار: تربية النشء على الأخلاق والقِيَم، إلا أنني أرى أن هذا الأمر لا يُعدُّ اختراعا جديدا، فجميع الحضارات التي استمرت قرونا طويلة كانت تقوم على الأخلاق والحفاظ على منظومة القِيَم، وذلك لعدَّة أسباب نذكر أهمَّها:
إن التزام أفراد المجتمع بالضوابط الأخلاقية يحقق الاستقرار في المجتمع ويحمي المجتمع من الظواهر الاجتماعية غير الأخلاقية التي تسيء للناس وتجعل حياة البَشر أشبه بحياة الغاب، بل ربما تتفوق حياة الغاب في الحفاظ على بعض القِيَم التي تضيع في عالم الإنس. فالحياة في مجتمع دون ضوابط أخلاقية تجعل الإنسان ينشغل بالدفاع عن نفسه وحماية حقوقه وحقوق من يرعاهم، بدلا من أن ينشغل بالعطاء والإبداع والإنتاج الفكري، فالضوابط الأخلاقية تجعل الإنسان يعيش في مجتمع آمن مستقر، والإحساس بالأمان يعطي الفرصة للإنسان للإنتاج، وأقصد هنا الإنتاج المعرفي.
أما على المستوى الأسري فإن وجود ضوابط أخلاقية تنظم العلاقة بين أفراد الأسرة، فيعرف كل فرد واجباته ويلتزم بها، ويطمئن على حوصلة على حقوقه، إن هذا المناخ يؤمن الاستقرار والترابط الأسري، ومما لا شك فيه إن صلاح الأسرة كبيئة حاضنة لأفرادها يؤدي إلى صلاح واستقرار المجتمع، فالأسرة هي النواة الأساسية للمجتمع.وعندما تكون الضوابط الأخلاقية هي الوسيلة الرادعة لأي تجاوز ولأي مخالفات، فتحمي تلك الضوابط الأخلاقية الاجتماعية الحقوق وتمنع سلبها، بل إنها تكون أمضى وأكثر فاعلية من ضوابط القانون وسلطة المسؤول، فالبيئة التي تحمي علاقات أفراد المجتمع بضوابط ذاتية داخلية هي البيئة المشجعة على الإبداع والإنتاج الحضاري. لعمري إنه لمجتمع فاضل.
وأتساءل: لماذا نجول يمينا وشمالا بحثا عن الحقيقة في هذا الموضوع؟ فدعونا نستقرئ فلسفة الإسلام في بناء المجتمع، فلقد بدأت الحضارة الإسلامية بإرساء ركائزها بتثبيت القِيَم والأخلاق وتعزيزها لدى أفراد المجتمع، ليكون الانضباط الأخلاقي والانضباط الذاتي هو الرادع الرئيسي لتجاوز القِيَم والأخلاق، وحماية الحقوق والالتزام بالواجبات هي الحامي الحقيقي لسلامة المجتمع وأمنه، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.. فهنا تأكيد واضح وصريح أن أساس رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم هي تعزيز القِيَم والأخلاق، وقد أثبت صلى الله عليه وسلم هذا المفهوم في عدة أحاديث نذكر منها قوله صلى الله عليه وسلم: “أَكْمَلُ المُؤمِنِينَ إِيمَانًا أَحسَنُهُم خُلُقًا” (حديث حسن صحيح، رواه الترمذي). ويمكننا القول إنه جعل الحفاظ على الأخلاق والقِيَم مسؤولية جميع أفراد المجتمع، ليكون أساسا قويا تُبنى عليه الحضارة الإسلامية.
ولعلِّي في هذا المقام أتفق مع الكاتب إيميل أمين بأن تنشئة الأطفال على القِيَم والأخلاق هو أساس بناء الحضارات، بل إنني أعدها حقيقة توافقت عليها المجتمعات، فإنشاء منظومة أخلاقية في المجتمع تدرس للصغار ويحافظ عليها الكبار هو الأساس السليم لبناء الحضارات، وبانهيار المنظومة الأخلاقية ينهار المجتمع، وقد أوجز الشاعر أحمد شوقي هذا المفهوم في بيت شعر واحد قال فيه:
إذا أصيب القوم في أخلاقهم
فأقم عليهم مأتما وعويلا
فما أحرى بنا أن ننشئ أطفالنا على القِيَم والأخلاق، وأن نكون لهم قدوة فلنلتزم بتلك القِيَم، وأن نحميهم من تأثير ما يرد في وسائل التواصل الاجتماعي الذي يهدم المنظومة الأخلاقية في مجتمعاتنا، ولعلِّي أخشى على أُمَّتي من أزمة الأخلاق وانهيار المنظومة الأخلاقية أكثر مما أخشى عليها من الأزمات الاقتصادية وتبعاتها على حياة الناس ومعيشتهم. حفظ الله جميع المجتمعات من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب من تبعات الانحلال الأخلاقي... ودمتم أبناء قومي سالمين.
نجوى عبداللطيف جناحي
كاتبة وباحثة اجتماعية بحرينية
متخصصة في التطوع والوقف الخيري
[email protected]
Najwa.janahi@