انطلاقا من أولوية رؤية عُمان 2040 “تنمية المحافظات والمدن المستدامة” والتي وضعت من بَيْن أهدافها تعزيز الإدارة المحلية، وترسيخ مفاهيم اللامركزية في عمل المحافظات، وعبر توسيع قاعدة الشراكة الفعلية بالاستفادة من كل المُكوِّنات والفرص والميزات التنافسية للمحافظات في بناء مرحلة جديدة تتناغم مع مستهدفات العمل الوطني، وتتجاوب مع متطلبات الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وتداعياتها على الحياة المعيشية للمواطنين، في الوقت الذي حدد فيه المرسوم السُّلطاني رقم (٣٦/٢٠٢٢) بإصدار نظام المحافظات، واختصاصات المحافظات في المادة (6) والتي من بَيْنها الاختصاصات: 3- تنمية واستثمار الموارد الخاصة بالمحافظة والترويج لها، من أجل تحقيق التنمية المستدامة وخلق فرص عمل للمواطنين. 4- العمل على الاستفادة من المُقوِّمات المختلفة في المحافظة.11- متابعة الأنشطة الاقتصادية في المحافظة، بما يُعزِّز نُمو هذه الأنشطة.
وبالتالي ما تعنيه هذه الاختصاصات من دَوْر محوري للمحافظات يستوعب التحوُّلات والأولويات الوطنية في ظلِّ تعظيم القيمة التنافسية لموارد المحافظات وتوظيفها، والاستثمار الأمثل في الفرص والممكنات والأدوات، وتنشيط الحراك المُجتمعي المتَّجه لصالح استدامة التطوير النوعي والتحديث الموجّه، وإعادة هندسة الواقع الاقتصادي وتقييمه وتعزيز ابتكارية المشروعات الإنمائية والخدمية والإنتاجية بالمحافظات، وصياغة واقع جديد من العمل المشترك، والتفاعل النوعي، والتناغم في الرؤى والأفكار، وتدارس جوانب القوة وفرص النجاح التي تتميز بها المحافظة مع مختلف الشركاء، أو كذلك التحدِّيات والصعوبات التي ينبغي الوقوف عليها وتكاتف الجهود المؤسسية والفردية مُجتمعة نَحْوَ معالجتها، وتعزيز مبادئ التفاعل والاحتواء وتلمُّس الأفكار الإيجابية، واستمطار الأفكار واستنطاق الفرص وإنتاجها بطريقة مبتكرة وتفعيلها وإعادة تدويرها لاحتواء كفاءة العمليات الداخلية وقدرتها على التكيف مع الواقع التنموي المتجددة وتعاظم قيمتها المضافة التي ستصنع الفارق في نواتج العمل، وما يعنيه ذلك أيضا من توظيف نتائج المسوحات والدراسات الاستطلاعية والإحصائيات والمؤشرات، وإيجاد آليات وأدوات نوعية لتشخيص واستقراء ورصد وتحليل متطلبات الواقع الاجتماعي والاقتصادي بالمحافظة، وخلق نموذج وطني مصغر يعبِّر عن حسِّ التلاحم والتكامل الوطني والانسجام بَيْنَ المحافظات كهياكل إدارية وتنظيمية وبَيْنَ مختلف شرائح المُجتمع في العمل معا على تحسين صورة المحافظة وإثبات بصمة حضور نوعي للمشاريع التنموية التي ستغير حياة الناس في المحافظة أو تقدِّم صورة إيجابية مشرقة حول نتائج هذه التحوُّلات وانعكاساتها على الحياة المعيشية للمواطن ومدى توفر الخدمات، والحدّ من البيروقراطية والتقليل سلسلة الإجراءات التي باتت تعرقل سير برامج التطوير بالمحافظة وولاياتها، كل ذلك وغيره يقدِّم اليوم مؤشرات مهمَّة لإنجاز مشروعات تنموية منتجة كشرط أساسي لقدرة المحافظات على تحقيق التزاماتها والوفاء بتعهداتها وقدرتها على تنفيذ برنامج المحافظات بالشكل الصحيح ووفق إجراءات ثابتة معلومة ومدخلات اقتصادية واستثمارية يعوِّل عليها المواطن نجاح المحافظة في إدارة مواردها واحتواء كفاءاتها وقدراتها البشرية.
وعليه، فإن قراءتنا لهذه الاختصاصات وما تسعى لتحقيقه يضعنا أمام مسار التنافسية التي يجب على المحافظات أن تتقن لغتها، وتتعامل معها برؤية واضحة ومسارات حكيمة، وتصنع منها استحقاقات التحوُّل القادم، فمن جهة تثبت للمواطن أن تطبيق اللامركزية، إنما يأتي لصالح المواطن، ويستهدف تحقيق التحوُّل في عمل المحافظات، الأمر الذي سيكون له انعكاساته الإيجابية على قناعته في المفاهيم والمعطيات التي تضمنتها رؤية عُمان 2040، ووجود نظرة إيجابية مستقبلية حولها، مما سيكون له أثره الإيجابي على ثقة المواطن والتزامه بها، فيعمل جاهدا على استدراكها في سلوكه اليومية، وثقافته العامَّة، وممارساته الحياتية، ويتخذ مساحة تأمل فيما يمكن أن تقدِّمه هذه المفاهيم والمفردات التطويرية في حياته المهنية، ومن جهة أخرى يضع المحافظات ككيان إداري مستقل على المحك في تحقيق مستهدفات رؤية عُمان 2040، ذات الصلة بإصلاح الإدارة والتنظيم ونظام الحوكمة، وأن برنامج المحافظات رغم ما تتكلفه الموازنة العامَّة للدولة فيه بإنفاق 220 مليون ريال عُماني لإحدى عشرة محافظة، يسير وفق الأهداف المرسومة ويحقق الغايات المأمولة، بما يصنعه من تنافسية المحافظات في إدارة هذا الرصيد والتعامل مع هذه الموازنات، والحرص على توجيهها في إطارها السليم وفق معايير النزاهة والرقابة.
من هنا، فإن من بَيْن جملة الدلالات التي يجب أخذها في الاعتبار في انتقاء واختيار وتحديد هذه المشاريع، أن تكون مشاريع منتجة؛ أي يكون لها أثر مستقبلي ونتاج ملموس مستدام الأثر على حياة المواطن، وتحمل معها فرص نجاحها وآليات تفوقها وقدرتها على تحقيق التحوُّل وصناعة الفارق، كما أنها مشاريع تضع المواطن أولوية في فلسفة عملها، فهي وسيلة تنموية من أجل المواطن. فالمشروع الاستثماري المنتج هو الذي يستطيع أن يوفر فرص عمل للمواطنين؛ لأنه مشروع يحقق الاستدامة والتنوع ويرتبط بمسارات تتناغم مع أولويات الإنسان المستقبلية وطموحاته الحياتية، وهو ما أشارت إليه الاختصاص (3) بشكلٍ صريح، وهي مشاريع تنموية تلتزم مسار النوعية والجودة، في ظل تأثيرها على تحقيق جودة الحياة الكريمة للمواطن، وتوفير مساحات ذوقية رائعة في حياة المواطن، بمعنى أن هذه المشاريع ترتبط بضمان الجودة الحياتية ونُمو الفرص الإيجابية في سلوك المواطن، كما لا يقف دَوْر المحافظات على اقتراح وإنتاج المشاريع، بل أيضا المتابعة والرصد المقنن للمشاريع المنفذة، وما يتطلبه من وجود استراتيجيات للمتابعة وأدوات التقييم تضع هذه المشاريع المنفذة أمام محكَّات عمل واضحة تقلل من الهدر والفاقد الناتج عن تأخير تنفيذ هذه المشاريع.
وبالتالي تحقيق مفهوم الابتكارية المعزِّزة لإنتاجية المشاريع والبُعد عن المشاريع التقليدية المتكررة والمستهلكة أو التي كانت تمارسها البلديات كجزء من اختصاصها قبل نظام إعادة الهيكلة في الجهاز الإداري للدولة وإصدار نظام المحافظات، فإن ما يظهر من بعض المشاريع التي تم إسناد مناقصاتها والعمل بها في بعض المحافظات قد لا تصبُّ في هذا النوع من المشاريع المنتجة، والتي تفتح أبواب الأمل لانخراط المواطن فيها، وكونها تُمثِّل مدخولا للأسر المعسرة وأُسر الضمان الاجتماعي ومحدودة الدخل، ومساحة اقتصادية مَرِنة للشباب العُماني الباحث عن عمل والمسرح من عمله في احتواء محافظته وولايته له، كما يؤسِّس أيضا لمشاريع تضع الجنسين وتنوع الفئات العمرية في خط متوازن من استيعاب الفرص الناتجة من هذه المشاريع، ومع ذلك وسعيًا لموضوعية أكثر في قراءة الأبعاد المستقبلية لهذه المشاريع، نعتقد بضرورة تحليل الرجع الميداني للمواطن حول المشاريع التي تم طرحها في عام 2022 ومدى قدرتها على تلمُّس مفهوم المشاريع المنتجة، وقدرتها على إعادة تغيير وهندسة الواقع الاقتصادي، وكفاءتها في خلق فرص ذاتية للمحافظات للاستفادة من موارها بشكلٍ سليم، وأثرها في تشجيع المواطنين وروَّاد الأعمال والمؤسَّسات الصغيرة والمتوسطة والشباب وغيرهم بالتفكير في أنشطة ومشاريع اقتصادية منتجة لها أبعادها الإيجابية على سكان المحافظة، وتعطي صورة إيجابية نَحْوَ الاستثمار الذكي.
أخيرا، فإن قدرة المحافظات على استيعاب هذه المعطيات، والحدس بالتوقعات وقراءة طموحات المواطن وأولوياته ورغباته من تطبيق اللامركزية، يستدعي رؤية أكثر عمقًا ومهنية ووضوحا في عملية إدارة هذه الموارد وتحديد نوعية هذه المشروعات، وإيجاد بيوت الخبرة التي تساعد المحافظات في تحديد جدوى هذه الاستثمارات والفرص الناتجة عنها وكيفية التصرف فيها، والصورة الأخرى التي يجب أن تتولد لدى الشباب بشأنها؛ فإن التأكيد اليوم على أهميَّة البحث في الوجْه التنافسي للمشاريع التنموية للمحافظات تأكيد على استدامة التنمية وتوجيهها للأجيال القادم التي تجد فيها طريق القوة لرسم ملامح المستقبل، فإن نجاح هذا الأمر سوف يؤسِّس لمزيد من الثقة والمهنية ليس فقط في أداء المحافظات، بل أيضا في المفردات المفاهيمية التي حملتها رؤية عُمان 2040 بشأن التمكين والإدارة المحلية والحوكمة واللامركزية، بالإضافة إلى أنه يساعد على القراءة الشمولية الواسعة للمحافظات من مدخل منظومي متكامل يبدأ بالمدخلات المتوافرة والعمليات التي تحتاجها في تحقيق هذه المدخلات، ثم الوصول إلى مخرجات تظهر في توظيف نتائجها في الفرص النوعية الذي تحققها لأبناء المحافظات، كتشغيل الباحثين عن عمل واستيعاب المواطنين في مختلف أجندة المحافظة، وثورة الوعي الاجتماعي التي تنطلق شرارتها من تقييم المواطن لما تحقق من نظام المحافظات، وقدرة الأخيرة على تعزيز مسار الحماية الاجتماعية للمواطن ورفع سقف التكافل الاجتماعي، وفاعلية مبادرة فك الكربة، في ظلِّ الظروف الاقتصادية الصعبة والالتزامات المالية التي باتت تُلقي بظلالها على حياة المواطن في ظلِّ نتائج التسريح والأحكام القضائية الصادرة ضد العديد من المواطنين بشأن مطالبات البنوك وشركات الكهرباء والماء، وأن يرى المواطن بوادر تحوُّل فعلية فيما ينجز من مشاريع، سواء في جودة هذه المشاريع أو كذلك في فترة التنفيذ وإجراءات الرقابة عليها.
د.رجب بن علي العويسي
[email protected]