ثالثا: الدكتور أحمد الحارثي، ووجبة دسمة عن الحياة التايلاندية.
بمبادرة لطيفة من الأخ الدكتور أحمد بن محمد الحارثي، نائب رئيس البعثة في سفارة سلطنة عُمان ببانكوك، أجبنا دعوته الكريمة في واحد من أهم معالم بانكوك التاريخية “the house on sathorn” الذي شيد في عام ١٨٨٩م، وكان مملوكا لأحد اللوردات، قبل أن تنتقل ملكيته فيصبح منتجعا فاخرا، وفندق “رويال” في عشرينيات القرن الماضي، وفي مرحلة لاحقة خصص كمقر لسفارة الاتحاد السوفيتي، وتم الحفاظ على قيمته الفنية والمعمارية التاريخية، واستثمر اليوم كمطعم ومقهى فاخرين، يقصدهما الأثرياء والسياح من داخل تايلند وخارجها. الدكتور أحمد الحارثي، من القلائل الذين يتمتعون بسعة الثقافة وبُعد النظر واللباقة والتهذيب والروح المرحة السمحة، وله نصوص أدبية مدهشة تناولت الكثير من القضايا والموضوعات والمناسبات المحلية والإقليمية والعالمية ينشرها تباعا على حسابه الفيسي بوكي بعنوان “لست غيري”، خصص بعضها للمدينة التي عاش فيها سنواته الأربع الماضية، والتي توثقت علاقته بساكنيها وزوارها وأسواقها وشوارعها وآثارها ومعالمها وصروحها، فشرع يتحدث عنها بقلمه الأنيق معبِّرا عن صدق مشاعره قبل مغادرته لها منضمًّا إلى مجموعة المتقاعدين، سعيدًا بتفرغه وانكبابه أخيرا لمعشوقه الكتاب وانشغاله بالمزيد من الإنتاج في مجال الكتابة، وملء شغفه بالسفر والتطواف بَيْنَ المدن. أصدر الدكتور أحمد كذلك كتابه الدسم والثمين “التداعيات الدوليَّة للملف النووي الإيراني”، قدمت له قراءة مفصَّلة نشرتها هذه الصحيفة الغراء “الوطن” في جزءين. أعدَّ لنا الدكتور أحمد، وجبة دسمة عن الحياة والتاريخ والثقافة التايلندية، تعكس سنوات قضاها في بانكوك، تميزت بالإخلاص والأمانة وخدمة العُمانيين الذين يتدفقون إلى تايلند للعلاج والسياحة والترفيه، فتوطدت علاقاته بهم، وظلوا شاكرين مقدِّرين صنيعه. يتحدث الدكتور أحمد قائلًا بأن سكان تايلند يتجاوزون في مجموعهم الـ٩٠ مليون تايلندي، منهم حوالي التسعة ملايين يقيمون في العاصمة بانكوك، مضيفًا أن النهضة الاقتصادية والتنموية التي شهدتها تايلند بدأت في الثمانينيات فقط، وقياسًا بعدد السنوات، فمؤشر التقدُّم انطلق بسرعة وتحققت الخطط والطموحات في أزمنة قياسية جدًّا، ولهذا السبب صُنِّفت البلاد ضمن مجموعة “أشبال النمور الآسيوية”، وتحوَّلت إلى واحدة من الوجهات السياحية المنافسة بقوة عالميًّا، والتي يقصدها السياح من أنحاء دول العالم. وتناول حديثه مشكلة الاختناق المروري، الذي تعاني منه شوارع بانكوك ويستهلك الكثير من الوقت والجهد، مشيرًا إلى أن الظاهرة لم تكن موجودة قَبل أكثر من عقد ونصف عندما كان القانون يمنع الشركات والمصارف المتخصصة من توجيه الأموال لشراء السيارات الخاصة، وبعد أن تم فتح المجال وتسهيل إجراءات التمويل، أقبل التايلنديون على شراء السيارات بأعداد كبيرة جدًّا، ما اضطر الحكومة إلى طرح مشاريع تطوير وسائل النقل العامَّة، وتوسيع الطرق والجسور المعلقة والأنفاق وإطلاق خدمة المترو والقطارات والحافلات بأنواعها... ولكنها لم تفلح في معالجة الازدحام؛ بسبب كثافة السيارات وارتفاع عدد السكان المتواصل والنمو الاقتصادي والسياحي. وانتقل الدكتور أحمد للحديث عن السياح الخليجيين والعُمانيين الذين يفضِّلون السَّكن في شارع “نانا”، أو شارع العرب، عند وصولهم إلى بانكوك للزيارة والعلاج والترفيه والاستجمام؛ وذلك لعدَّة أسباب من بَيْنها، قربه من مستشفى “بامر نجراد” المشهور، الوجهة الأولى في التشخيص وطلب العلاج، واستثمارها ـ أي المنطقة ـ من قِبل المهاجرين الهنود، والعرب الذين قدموا من العراق ومصر والشام في الثمانينيات والتسعينيات، في افتتاح المطاعم العربية والإسلامية والخدمات السياحية وما يحتاجه العرب من صرافة وغيرها، ويتحدثون اللغة العربية، ما يسر من ووطد من طرق التفاهم والشعور بالطمأنينة وسهولة التخاطب. وأضاف الدكتور أحمد أن أول مَنْ سكنَ هذه المنطقة هم المسلمون التايلنديون الذين قدموا من جنوب تايلند كعمَّال لحفر قنوات المياه المتصلة بنهر “تشاو فرايا”، وبمرور الأيام استوطنوا المكان، لكن المستثمرين الهنود اشتروا منهم بعد ذلك، الكثير من الأراضي الذين بدَوْرهم استثمروها في مشاريع مختلفة، لافتًا نظرنا إلى أن عدد العُمانيين الذين يزورن تايلند لمقاصد متعدِّدة يتجاوز المائة ألف في العام الواحد وفقًا للتقديرات المُعدَّة قَبل “جائحة كوفيد١٩”. وأخذ الدكتور أحمد دفة الحديث إلى التاريخ التايلندي الذي تشكَّل من عدد من الممالك المستقلة آنذاك، والتي ما زالت تعتز بتاريخها وهُويتها وثقافتها حتى اليوم، ثم عرج إلى عاصمة تايلند التاريخية “أيوتا” التي تبعد عن بانكوك حوالي ٧٠ كيلومترا، وتتميز بالآثار القديمة، وتُعدُّ من المقاصد السياحية في تايلند، وهو شخصيًّا زارها مرَّات عديدة. وانتقل في مسار حديثه الشيق إلى اللغة التايلندية التي تتميز بكونها لُغة لَحنٍ تعتمد على النغمة وتمطيط الحروف، لذلك فهي “صعبة التعلم”. وحَوْلَ ما تشهده العملة التايلندية من انخفاض مستمر، يشير الدكتور أحمد إلى أنها حالة طبيعية يقابلها ارتفاع أسعار السلع في الأسواق بسبب التضخم الذي يشهده العالم في الوقت الراهن. من أعلى قمة “كينج باور ماهنا خون” ناطحة السحاب الأعلى، التقطنا عددًا من الصور التذكارية بصحبة الأبراج والمعالم والمباني والمعابد والقصور الفخمة التي يقسمها نهر “تشاو فرايا” في مناظر مدهشة ومشاهد خلابة. يُذكر أن ناطحة السحاب افتتحت في ديسمبر ٢٠١٦، ويصل طولها إلى “٣١٤” مترًا، وتنتشر في طوابقها الـ٨٠ المطاعم والمقاهي الحديثة، التي تطلُّ على العاصمة التايلندية، ويرتادها السياح وسكَّان البلاد. الجولة المسائية في نهر “تشاو فرايا” الشريان الرئيسي الذي يهب بانكوك الحياة، من البرامج التي لا تفوت في المدينة، حيث تعبر السفن والقوارب بأنواعها ضفاف النهر، ممتلئة بالسياح الذين ينتهزون الفرصة في التقاط الصور الأخاذة للمعبد البوذي الذهبي “وات أرون”، والقصر الكبير أو قصر “ملوك تايلاند التاريخي الذي يعود إلى القرن السابع عشر”، والمعالم الكثيرة المنتشرة على ضفتي النهر.
سعود بن علي الحارثي
[email protected]