الاستشراف المتبصِّر بمهنة الطِّب يحمل الكثير من أبعاد الارتجال الإنساني للطبيب، فتراهُ ينسج خيوطَ عطائِه بمنوال العطف والرحمة، فهو لا يبتعد عن لوازم المنطق في تقديم خدماته بحسٍّ إنسانيٍّ مُرهف. فالطبُّ فنٌّ قائم على المعرفة المغلَّفة بالرأفةِ والحَدْسِ والاهتمام، وهي مهنةٌ عظيمة لا تَقبَل بالمناطق الرماديَّة ولا تَقبَل بأنصافِ الحلول، الطبُّ لا يتمحور حَوْلَ المَرَضِ فقط، بَلْ حَوْلَ المَريضِ ووجدانِه.
الشهاداتُ من أعرقِ الجامعات، والمعرفةُ الطبيَّة، لا تكفي لتقديم رعاية صحيَّة للمرْضَى إنْ لَمْ تقترنْ بإدراكٍ إنسانيٍّ عميق، ونقصُ اللينِ والعاطفة بجوارح الطبيبِ لا يُمكنُ لأرقَى المصادر العلميَّة أنْ تزرعه فيه. وتأمَّلتُ الأطباءَ الناجحين حَوْلِي لَمْ يكونوا الأكثرَ عِلمًا، بَلْ الأكثرُ حُنُوًّا ورحمةً، وما رأيتُ طبيبًا مُحسنًا إلَّا وكان ناجحًا.
تعودُ بي الذاكرةُ لإحدى الزميلات؛ مرَّتْ بظرفٍ يستدعي مراجعةَ طبيبةٍ بتخصُّصٍ نادر، ولكنَّها أبَتْ أنْ تذهبَ رغمَ حاجتها المُلِحَّة للتشخيص وقلَّة حيلتها وتفاقُم حالتها الصحيَّة، ولكنَّها فضَّلتْ أنْ تحجزَ تذكرةً وتسافرَ إلى دولةٍ مُجاورة لِتزورَ طبيبًا في التخصُّص نَفْسِه... ولا تُظهرَ انكسارَها ووهَنَها لتلك الطَّبيبة المُتغطْرسة... رغمَ أنَّ معاناتها غير قابلة للانتظار وتحتاجُ لتدخُّلٍ سريعٍ ودعمٍ معنويٍّ كبير.
تختالُ تلك الطَّبيبة بفَوقيَّة بَيْنَ زملائها بتخصُّصٍ نادرٍ بشهادةٍ من أرقَى الجامعات، هكذا تُصنِّفُ نَفْسَها وكأنَّها أيقونةُ المعابد الساحرة التي يتمنَّى النَّاسُ التبجُّل لها، ذاعَ صِيتُها بَيْنَ الزملاء والمَرْضَى والمُجتمع، ليْسَ بخضرمتِها بَلْ برعونتْها وفجَّة تعامُلها، ويَجِبُ أنْ يُرصَّعَ اسمُها بالكثير من الألقاب والمسمَّيات التي لا تتوانى عن تذكير الجميع بها، تراها مملوءةً بالغضَب والعُجْبِ، تلوي عنقَ كُلِّ مَنْ لا يتَّفق معها أو يوافقها وتَعدُّه جاهلًا، فيعلو صوتُها ويصمتُ الآخرون، هذا بحدِّ ذاته يُعدُّ جنونًا وتكبرًا ونوعًا من الجهل أيضًا. قد تمتلك تلك الطبيبةُ من المعرفة والعِلْم ما لا يُوجد عند غيرها، ولكنَّ المعرفة دُونَ حِكمةٍ لا يُمكِنُ أنْ تجُودَ بأيِّ اعتباراتٍ إنسانيَّة. للأسف هذا ما يفعلُه الجهلُ بحاملِ شهاداتٍ دُونَ تعاطُفٍ إنسانيٍّ، فهو لا يخدمُ إلَّا نَفْسَه، كَمْ أشعرُ بأنَّهم عالةٌ على حسابِ الأرضِ والزمان والإنسان، وكَمْ هي خسارةٌ فادحة للأوطان بأنْ تستثمرَ الكثيرَ في مَنْ لا يُثمر، ويخُونُ شرَفَ المِهنة كُلُّ مَنْ حمَلَ رسالةَ طبٍّ وتخلَّى عن ملائكيَّته وفقَدَ الإنسانَ بداخله.
أعلمُ جيدًا أنَّ سنوات الطبِّ طويلةٌ جدًّا، والطريق غير معبَّدٍ ولا يسيرٌ وأعْلَمُ أيضًا بتواضُع البدايات وسنوات الغُربةِ والعناءِ وواقعيَّة الحرمان... لِيحصلَ على شهادةِ طبيبٍ هي ذاتها الشهادة التي يُعظِّمها المُجتمع... فتراهُم يزيحونَ للدكتور فُلان للصَّلاة في أوَّلِ الصَّف، بَلْ يُقدِّمونَه في طابور الانتظار دائمًا احترامًا وإجلالًا لمكانةِ الطبيبِ عندَ العرب ولِحصانتِه الاجتماعيَّة المورثة. ولكنْ تذكَّروا قولَه تعالى: “وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)” ما أراه من بعضنا ـ القلَّة ـ يفقدُني صوابي، فتراهُ متسلطًا على حياة مرضاه ومختالًا بكبرياء مقيتٍ، وكأنَّهم أشباهُ آلهة قادمون للحُكم على مَنْ هُمْ بَيْنَ الموتِ والحياة. أيُّها الأطباءُ تذكَّروا لقَدْ أتينا لخدمة النَّاس ولَسْنَا أسيادًا عليهم، والموتُ والمَرضُ لا يستثنيانِ أحدًا فتواضعوا. وفي المقابل أرَى الكثيرَ من الأطباءِ الذين يشعُّون إنسانيَّة محفوفينَ بالتوفيقِ الإلهي ببساطتِهم وآدميَّتهم وقُربهم من النَّاس.
د. رقية بنت إسماعيل الظاهرية
طبيبة وكاتبة عُمانية