يشهد عصرنا الحالي طفرة علمية وتكنولوجية هائلة ومتسارعة، وإحدى إفرازات الثورة التكنولوجية ما يُسمى بالعملات المشفَّرة. منذ إطلاق العملات المشفَّرة، ظن العديد من المستثمرين أن تلك العملات سوف تجلب لهم الثراء السريع، ولكن مما لا شك فيه أن هذا الاعتقاد قد اهتز وتزعزع في الآونة الأخيرة. في الحقيقة أن فكرة العملات المشفَّرة هي ليست وليدة اليوم، بل ظهرت منذ فترة طويلة وتتلخص فكرتها حول استخدام أنظمة تكويد معقدة تقوم من خلالها بتشفير عمليات نقل البيانات لتأمين وحدات التبادل الخاصة بها، إضافة إلى قدرتها على إخفاء هوية المتعاملين فيها مما يجعل التعاملات والتحويلات وتدفقات الأموال مجهولة المصدر بما يحقق مبدأ الخصوصية.
يسعى مؤيدوها للتخلص من التعاملات النقدية المعتادة ليحلَّ محلَّها التعاملات والمدفوعات الإلكترونية. بل شهدت الفترة الماضية قبولا متزايدا على العملات المشفَّرة وقفزت أسعارها إلى مستويات قياسية كبيرة لا يتصورها العقل. واتخذت طريقها في التعاملات المالية الدولية نظرًا لقبولها من بعض الدول. ونظرًا للارتفاع الجنوني لأسعار بعض العملات المشفَّرة شجعت العديد من المستثمرين في التوجُّه بالاستثمار بقوة في هذا النوع من العملات، حيث وصل سعر البتكوين “Bitcoin” مثلا إلى مستوى قياسي بلغ 69 ألف دولار تقريبًا في 9 نوفمبر 2021، للتبخر فجأة وبانخفاض حادٍّ بلغ 18.5 ألف دولار تقريبًا في 9 نوفمبر 2022 أي أنها فقدت ما يقارب 73% من قيمتها.
منذ انهيار عملة لونا “LUNA” في يونيو 2022 توالت النكسات على سوق العملات المشفَّرة. حيث شهدت منصَّة العملات المشفَّرة “أف تي أكس “FTX” الشهيرة فقدانًا غامضًا لما يقرب من 662 مليون دولار من العملات الرقمية في يوم واحد فقط بتاريخ 11 نوفمبر من هذا العام. فقد سحب المتداولون 6 مليارات دولار من المنصَّة خلال 72 ساعة فقط. مما أدَّى إلى تقدُّم الشركة بطلب الإفلاس، بعدما فقد مؤسس المنصَّة نحو 94% من ثروته في يوم واحد. ومن أهم الأسباب هو تلاعب الشركة بأموال المستثمرين واستخدامها للاقتراض دون أي غطاء مالي يكفي لسداد سحوبات العملاء التي انهالت على الشركة خوفا من الانهيار.
فيما حذر رئيس منصَّة بينانس” “Binance للعملات من أن المزيد من الشركات قد تنهار في الأسابيع المقبلة في أعقاب المشاكل في “أف تي أكس”. ويشير الخبراء إلى أن هناك العديد من المؤسسات المالية الأخرى مثل منصَّة إقراض العملات المشفَّرة بلوك فاي “BlockFi” والتي من المتوقع أن تعلن إفلاسها في غضون أيام. وخلال أقل من أسبوع سجَّل سوق العملات الرقمية خسائر فادحة بما يقارب 250 مليار دولار في شهر نوفمبر. وفقًا لبيانات كوين جيكو بتاريخ 13 نوفمبر2022 بأن العملات الرقمية قد خسرت من قيمتها خلال عام ما يقرب من 2.5 تريليون دولار، وتَعُدُّ ذلك خسارةً فادحة لسوق العملات المشفَّرة.
ختامًا، لقد حان الوقت لإعادة توازن المحافظ الاستثمارية وعدم إغراقها بالعملات المشفَّرة. إن أزمة “أف تي أكس” التي حدثت مؤخرا والنكسات التي ألمَّت بسوق العملات المشفَّرة خلال هذا العام قد تفتح لنا الكثير من التساؤلات حول أهميَّة وضع إطار تنظيمي حقيقي لذلك النوع من العملات. ومن المتوقع أن تزيد عمليات الاحتيال والقرصنة المتواصلة، وبالتالي سوف يفتح بابًا لمستقبل العملات المشفَّرة وللأصول الرقمية الأخرى التي تدعمها تقنية سلسلة الكتل “Blockchain”.
د. يوسف بن خميس المبسلي
متخصص في العلوم المالية والاقتصاد