يُمثِّل التراث أحد أهم أعمدة الاقتصادات الواعدة في العالم، سواء في إطاره المادي ممثلًا في القلاع والحصون والبيوت الأثرية والأسواق التقليدية الشعبية والحارات القديمة أو في إطاره المعنوي المعبّر عنه بمختلف الأشكال التعبيرية التراثية كالسباقات المختلفة للهجن والخيل، والفنون التقليدية المغناة كالعازي وغيره، أو كذلك الفن الشَّعبي العُماني المرتبط بالمناسبات الوطنية والاجتماعية، وما جسَّدته المتاحف العُمانية في تعدُّدها وتنوُّع محتواها الثقافي والاجتماعي والتأريخي والإنساني، وشواهد الإثبات التي رصدتها في إثراء الذاكرة الجمعية الثقافية والفكرية والتعليمية والتأريخية والطبيعية، لتعبِّر جميعها عن صورة التمازج بين مُكوِّنات البيئة العُمانية “السهل والجبل، والبحر والصحراء”، لتنساب خيوطها في تشكيل شخصية الإنسان العُماني، يدعمه في ذلك توازن الثقافة العُمانية واتصالها بالثقافات الأخرى واستفادتها من التطور الإنساني في مختلف العلوم والفنون والآداب، فأنتجت فيه السلام والأمن والحوار والتعايش والتسامح والتعاون والتكافل، بما تُمثِّله من محطة لقراءة التاريخ والوقوف على دلالاته ورسم صورة مكبرة مشرقة حول إنجازات الأجداد والآباء ليكون منصَّة متجددة في حياة الجيل الحالي يستلهم منها معاني الشموخ والعزة والكرامة والريادة والبناء والتضحية وحب الأوطان.
لذلك لم تَعُدْ لغة التراث اليوم جامدة بقدر ما فيها من مرونة وديناميكية في ظل ما أكسبته معطيات مجتمع المعرفة من فرص توظيف التقنيات الحديثة في إعادة إنتاج التراث وتطويره، وأصبح لاقتصاد التراث حضوره الواسع في عالم الاقتصادات الواعدة، بل يُعدُّ من أكثر الاقتصادات إنتاجا، في ظل ما يؤكده واقع اقتصاد المعرفة من أن الأصول الفكرية والثقافية والفنية غير المادية، وما تتطلبه عمليات التسويق لها ونقلها وإعادة إنتاجها من خلال برامج التعليم والتثقيف والإعلام والبحث العلمي والابتكار، تُمثِّل اليوم أهمية كبرى في دعم الاقتصاد وإضافة استثمارات عالية النتائج، وأكثر تناغما مع متطلبات اقتصاد المعرفة، وتعزيز دور الثقافة كمنتج استثماري واقتصادي واعد، تتعدد نواتجه وتتنوع استخداماته؛ فإن إسقاط هذه الفرضية على الواقع العُماني، والرصيد التراثي الثقافي والفني وأشكال التعابير المختلفة التي تميزت بها الثقافة العُمانية، منطلق لتوظيف التراث العُماني وإعادة إنتاجه وصناعة النماذج الوطنية المعبِّرة عن روح التناغم بين التراث والحياة، ودور التراث في صناعة الاقتصاد وإنتاجيته، وترقية البُعد الإنتاجي في حياة الإنسان، فهو بما يوفره له من فرص اقتصادية وعبر جملة السلع التي ينتجها، فإنه أيضا يؤصل فيه جماليات الحياة في ظلال العمل والإخلاص والإنجاز، ويقدم له مساحات واسعة من الذوق والاحترافية والتصميم وروح الإنتاجية والعطاء التي رافقت الإنسان العُماني في كل محطات حياته، حيث شكلت هذه القلاع والحصون والسواري الشامخة خير دليل لما حمله الإنسان العُماني من قِيَم العمل والإنجاز والإنتاج والإبداع الخلاق، وما تميز به من عُمق التفكير واتساع النظرة الإيجابية للحياة وتنوع البدائل والخيارات التي يطرحها في معالجة واقعه، وحيويته واتزانه الفكري والنفسي.
لقد جاءت رؤية العمل الوطني في قراءة التاريخ والتراث نحو تكييفه مع المفهوم الوطني الذي ينظر للتراث كجزء من أصالة الإنسان العُماني، ومنطلق له للدخول في التحوُّلات الاقتصادية الحاصلة في عالمه مع مزيد من التمحيص والفهم والوعي والتحليل لمحطاته المختلفة، بما يضمن ربطه بمفاصل السياسات والاستراتيجيات والخطط الوطنية، سواء في مجال السياحة أو في صون التراث الثقافي وحفظه وتعميق وجوده في السلوك اليومي للإنسان العُماني أو في تعظيم إنتاجيته بحيث يصبح التراث مشروعا اقتصاديا ومصدر دخل ثريا للمواطن. لذلك أوجدت النزل التراثية، وعصرنة البيوت الأثرية، والحارات القديمة، وتعزيز اقتصاد القلاع والحصون والمواقع الأثرية والتاريخية وعبر إدخال مفردة التراث في حياة الأجيال لتصبح مساحة تواصل وفرصة يقترب فيها الأجيال من مُكوِّنات هذا التراث وأدواته وآلياته ومهامه وفلسفة وجوده والغايات التي حققها، وكيف يعيد الأجيال نشاطها وحيويتها بما يستجيب لطبيعة التحوُّلات الاقتصادية والاجتماعية المعاصرة. وعليه، فإن التجسيد العملي النموذج لتوظيف التراث وإنتاجيته في واقعنا العُماني، يضعنا أمام حالة وطنية عظيمة الأثر، عميقة الدلالات يترفع على كرسي الفخر فيها “سوق نزوى”، كأهم وأعظم النماذج الوطنية الريادية في توظيف التراث وإنتاجيته ـ مع الإيمان بوجود نماذج وطنية أخرى سواء في الأسواق أو غيرها ـ والتي حافظت على وجودها واستمراريتها وديمومتها رغم التحدِّيات والمتغيرات المعاصرة، إذ تجسِّد أشكال الممارسة التراثية اليومية في سوق نزوى والأشكال والنماذج التعبيرية المرتبطة به صورة متوازنة لاقتصاد التراث وتوظيفه في صناعة اقتصاد المجتمعات، فهو بالإضافة إلى دوره الاجتماعي بما يُمثِّله من نموذج وطني في المحافظة على عبق التراث الماجد واحتواء المنتج العلمي والتراثي الفكري والمادي، ويجسِّده من هُويَّة الإنسان العُماني، والصورة المشرقة التي كانت تشكلها الأسواق في حياة الإنسان العُماني في حقب التاريخ المختلفة، فإن سوق نزوى يُمثِّل معلما اقتصاديا وسياحيا وتراثيا وتأريخيا وحضاريا بكل ما تحويه الكلمات من معنى، ويُمثِّل نموذجا حضاريا تراثيا بنكهة عصرية مع الإبقاء على لغة التاريخ والتراث حاضرة في كل محطاته، تتزين بها كل تفاعلاته ومنصَّاته، ليقرأ المتعايش مع أبجديات هذا السوق ومحتوياته ومنتجاته عبق الماضي وإشراقة الحاضر ورؤية المستقبل، ومع أنه مقصد للمواطنين والمقيمين من محافظة الداخلية وولاياتها والمحافظات الأخرى؛ لشراء المنتجات الزراعية والحيوانية والسمكية، وأنواع أخرى من الصناعات والمنتجات التقليدية والتراثية مثل: صناعة الخناجر والسيوف والفضيات والفخاريات والسَّعفيات والنسيج وحُلي الزينة والمقتنيات الأثرية، فإنه أيضا مقصد أصيل للسياح الأجانب للتعرف عن قرب على حياة العُمانيين.
إن من بين أهم الدلالات التي يحملها سوق نزوى في التعبير عن توظيف التراث لتعزيز الفرص الاقتصادية والاستثمارية يكمن في محافظة هذا الصرح التراثي العملاق على هُويَّته والتزام القائمين فيه والمتعاملين معه والمستفيدين منه أو التجار والباعة والعارضين للسلع بالذائقة الحضارية التراثية في سلاسة وأريحية، وما يحمله انخراط الأبناء مع الآباء، واندماج الصغار مع الكبار، وحضور الشباب ـ خصوصا في وقت الإجازات والمواسم ليمارسوا مهمة البيع والمناداة وعرض السلع ـ في تشكيل هذه الصورة المشرقة لهذا السوق، والميزة التي يتفرد بها سوق نزوى على غيره من الأسواق التقليدية في سلطنة عُمان في حضور أبناء البلد أنفسهم في إدارة عمليات البيع والمناداة، وعرض منتجاتهم في شغف وحماس ونشاط، ورغبة في العطاء، ومزاجية عالية، وروح معطاءة منذ الصباح الباكر، تعبيرا عن عطاء الشباب المتجدد، وحضور الكبار النماذج والقدوات، ودخول الصغار الواعد وعدم ترفعهم جميعا عن البيع والمناداة وعرض السلع، وتسويق المنتجات، واستغلال أكثرهم للمواسم الاقتصادية والسياحية والمناسبات الاجتماعية والدينية والوطنية في أن يكون لهم بصمة حضور في السوق للتوقعات بازدياد القوة الشرائية في السوق من داخل ولايات المحافظة والمحافظات الأخرى في ظل ما يعرض في السوق من منتجات أصيلة، خصوصا فيما يتعلق منها بالخناجر والسيوف والفضيات والفخاريات والنسيج، ويجد فيها المواطن أو المستهلك عامة مزيدا من الثقة والأريحية؛ لكونها أنتجت على أيدي متخصصين وباعة عُمانيين متمرسين.
وعليه، وانطلاقا من أولوية رؤية عُمان 2040 المواطنة والهُويَّة والتراث والثقافة الوطنية “مجتمع معتز بهُويَّته وثقافته وملتزم بمواطنته”، وفي إطار تعزيز الإدارة المحلية، ونظام المحافظات الصادر بالمرسوم السُّلطاني رقم (36/‏2022)، يأتي التأكيد على دور المحافظات التنافسي في تعظيم دور التراث وإدارة الفرص السياحية والتراثية الطبيعية والصناعية والتثمير فيها، وإثبات بصمة حضور لها في الخريطة السياحية الوطنية لضمان تقديم نموذج اقتصادي وسياحي مبتكر يوظف هذا الرصيد التراثي الزاخر بالفرص والمُكوِّنات والمحتوى من أجل مستقبل الأجيال القادمة. فإن سرد الدلالات التي يحملها سوق نزوى في توظيف التراث العُماني وإنتاجيته، أكبر من اختصارها في مقال أو اختزالها في كلمات، فهي في صورتها الحالية نموذج اقتصادي ناجح يستدعي المزيد من الجهد الوطني في المحافظة على كفاءة أدائه ومنافسته العالمية وتوفير المحفزات الداعمة لاستدامة نشاطه، ومسار تعليمي وتربوي تصنع منه مناهج التعليم وبرامجه ومبادراته صورة عملية واقعية للأجيال القادمة في استيعابها لهذا الرصيد الحضاري التراثي العُماني الزاخر في كل المجالات، وصورة نموذجية يتعلم فيها الأبناء كيف يمارس الصغار الاستثمار ويصنعون الاقتصاد ويديرون الموارد ويحافظون على الثروات؟ وكيف يحترم الشباب العمل، ويقدسون الإنتاج، ويصنعون الإنجاز؟ وكيف يحافظ الكبار على شرف المهنة رغم تقدمهم في العمر بكل فخر؟ إن سوق نزوى تجسيد حقيقي لمفردة التراث العُماني في أبعاده الاقتصادية والسياحية والاجتماعية في أجمل الصور وأعظم المواقف وأدق التفاصيل وأصدق التعابير وأسمى الحكايات.
د.رجب بن علي العويسي
[email protected]