بدأت الاحتجاجات والمظاهرات والإضرابات تتصاعد في أوروبا وبريطانيا، ليس فقط بسبب غلاء المعيشة وتردي الأوضاع الاقتصادية وتراجع قدرة الأُسر على تحمُّل أعباء الحياة مع انخفاض قيمة الأجور، ولكن أيضا بسبب تبعات المواجهة في أوكرانيا وبدء شعور الجماهير الأوروبية بأنَّها هي التي تدفع الثمن وليست الأطراف المتحاربة فحسب.
في ألمانيا، خرج المئات الأسبوع الماضي يحتجون على غلاء المعيشة رافعين لافتات تقول إن الشعب هو من يدفع ثمن المواجهة والعقوبات على روسيا. وتناوب الخطباء في الحشد المتظاهر يتهمون حكومتهم، وكل أوروبا، بأنها مجرَّد “دمية بيد الأميركان”. وقال أحدهم إن “الحظر على روسيا فشل تماما وأصبح موجَّها بشكل كارثي نَحْوَنا نحن”.
سبق أن شهدت إيطاليا وجمهورية التشيك وغيرها مظاهرات مماثلة ضد الصراع والعقوبات. ورغم أن بريطانيا تبدو الأكثر حماسة في دعم أوكرانيا والوقوف بوجه روسيا، خصوصا وأنها الأقل تضررا من العقوبات على موسكو بل ربما حتى تكون مستفيدة، لكن سلسلة الإضرابات التي تتصاعد فيها ليست بعيدة عن الموقف من حرب أوكرانيا.
ووصف أحد المعلقين السياسيين المخضرمين الوضع في بريطانيا وكأنه يوشك أن يتحول إلى عصيان مدني مع اتساع نطاق الإضرابات لتشمل كل القطاعات تقريبا. وربما ذلك ما حدا رئيس الوزراء السابق بوريس جونسون، الذي يحاول الآن العودة إلى مقدِّمة السياسة في بريطانيا مجددا، لأن يطرح حملة دعم إنساني للتبرع بالأدوية لأوكرانيا.
لكن حتى ذلك التحفيز للجانب الإنساني للإبقاء على زخم الدعم الأوروبي لأوكرانيا، مع خفوت تأثير التعبئة السياسية، قد لا يوقف منحى التراجع في الحماس للحرب والعقوبات بَيْنَ الجماهير العادية. ولعلَّ أبرز مثال على ذلك هو تظاهر بعض الأيرلنديين ضد مزيد من إيواء لاجئين أوكرانيين. على الرغم من أن شعب أيرلندا من أكثر شعوب الجزر البريطانية إنسانية.
الجديد هو أن الأمر لم يعد يقتصر على الجماهير العادية، بل إن كثيرا من السياسيين في أوروبا بدأوا بالفعل يتململون من ليس فقط من تحمُّل بلادهم نتائج المواجهة في أوكرانيا والعقوبات على روسيا. بل إنهم يشيرون الآن بأصابع الاتهام للولايات المتحدة بأنها المستفيدة الوحيدة من الصراع وعلى حساب أوروبا تحديدا. ونقل موقع بوليتيكو الأميركي للأخبار والتحليلات السياسية هذا الأسبوع عن مسؤولين أوروبيين انتقاداتهم لإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن. وقال بعض هؤلاء صراحة إن واشنطن تستغل أزمة الصراع للنيل من أوروبا. فهي تبيع لأوروبا الغاز الطبيعي المسال بأسعار أعلى مستغلَّةً أزمة الطاقة في أوروبا بسبب الصراع والعقوبات على روسيا. ليس هذا فقط، بل إن بعض السياسيين الأوروبيين قالوا صراحة إن أميركا تبيع الأوروبيين السلاح بأسعار أعلى، حتى السلاح والذخيرة الذي تشتريه بعض الدول الأوروبية من شركات أميركية لتقدِّمه مساعدات عسكرية لأوكرانيا.
المتوقع أن تزيد المظاهرات والاحتجاجات وتبادل الاتهامات مع عمق فصل الشتاء قي الأسابيع والأشهر القادمة، حين تتفاقم أزمة الطاقة في أوروبا ويزيد الضغط على الشعوب الأوروبية في تحمُّل ارتفاع تكاليف المعيشة. وتشير أحداث الأسابيع الأولى من فصل الشتاء إلى أنه سيكون شتاء غضب في أوروبا. ولن يكون الغرب موجَّها ضد روسيا والرئيس فلاديمير بوتين بقدر ما سيكون موجِّها لحكومات الدول الأوروبية وسياسييها. فلم تعد تنطلي على الجماهير شعارات السياسيين بأن موسكو هي المسؤولة عن ارتفاع أسعار الخبز والحليب. بل أصبح الناس يعون، ولو ببطء، أن سياسييهم يدارون فلهم في إدارة أمورهم بشماعة الصراع في أوكرانيا.
لا يعني ذلك أن الشعوب الأوروبية، وغالبية سياسييها الآن، يصطفون مع موقف موسكو أو أنهم لا يعدرون الصراع في أوكرانيا عدوانا روسيا على دول جارة ولا يتعاطفون مع الأوكرانيين في مقاومتهم للروس. لكنهم في الوقت نفسه أصبحوا لا يتحملون استمرار الصراع بعد نَحْو تسعة أشهر. وخفتت بالفعل فورة المشاعر المغالية في الدعم والتأييد، وأصبحت الجماهير تتجه نَحْوَ التعقل ولا ترى مبررا لاستمرار المواجهة والصراع وأن على الأوكرانيين وداعميهم البحث عن سُبل للتسوية من خلال المفاوضات مع الروس.
ربما لم يصل الغضب بعد إلى حدِّ تحويل اتجاهه تماما بعيدا عن موسكو نَحْوَ الحكومات في عواصم الدول الأوروبية وبريطانيا، لكن تصاعد الغضب خلال الشتاء الحالي سيزيد من استهداف حكومات الشعوب الأوروبية وسياسييها. إنما الأخطر حقًّا هو أن يركز الغضب، الشعبي والسياسي، على اتهام الولايات المتحدة. ففضلًا عن تهديد ذلك لوحدة الموقف الغربي الداعم لأوكراني المتصدي لروسيا فإنه ينال من تحقيق هدف استراتيجي أميركي. ذلك الهدف الذي عبَّرت عنه إدارة الرئيس بايدن من اللحظة الأولى لتوليها السُّلطة وهو التصدي لصعود روسيا والصين بتكوين تحالف غربي موسع الهدف النهائي منه تعزيز الريادة الأميركية في العالم.
في النهاية، ليس التحالف الغربي في طريقه للتصدع تماما لكنه بدأ يفقد الزخم وبدأ الناس العاديون يتساءلون: هل حقا ما نعانيه سببه روسيا أم سياسيونا؟ ولم يعد ذلك التساؤل همسًا، بل أصبح عاليًا في مظاهرات واحتجاجات وعناوين وسائل الإعلام في الغرب. وربما في ذلك ما يثبت أن موقف أغلب الدول العربية منذ بداية الأزمة بعدم الاصطفاف مع هذا الطرف أو ذاك كان القرار الصحيح.
د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري
[email protected]