.. واختلف جو السورتين رحمة وعذابًا، حنوًّا وتبرؤًا، وتباينت أهداف، ومقاصد هذه السورة، وتلك السورة؛ ولذلك جاء تنبيههم على السكت أو الوقف أو القطع، وأن الوصل هو رأي لبعض العلماء، وأن الأكثرية أخذتْ بالسكت، أو الوقف، أو القطع.
فالناظر يدرك مضمون هذا السكت، وسببِه، ودلالتَه الذي لم يكن يعطيه الواحد منا مزيدًا من الاهتمام، والوعي حين نبَّه عليه علماء الوقف، والابتداء، وأشاروا إلى تلك الدلالات الرائعة التي خَفِيَتْ على مَنْ هُمْ دونهم، وضاعت تلك المعلومة الجليلة، والفكرة الرائعة وسط انشغال القارئ بالتلاوة، وعدم تنبُّهه إلى أن الختام هنا يتناقض مع البدء هناك، فقام علماء الأداء ببيان ذلك، وتقييده في كتبهم؛ حتى يتعلمَه القراءُ الكرام، والأمرُ جائز، لكنه مهم، والتنبُّه إليه واجبٌ؛ للتفريق بين ختام، وبدء، وبين نهاية سورة بأجوائها الجليلة، وبداية سورة أخرى بأجوائها المتباينة النازلة في حق المشركين والمنافقين والصادين عن سبيل الله رب العالمين، ودلالاتها المتباعدة عن دلالات سورة الأنفال قبلها.
والموضع الثاني والأخير من السكت الجائز عند حفص هو السكت على هاء: (ماليه) من قول الله عز وجل:(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ، وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ، يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ، مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) (الحاقة 25 ـ 29)، وقد نبه العلماء على ذلك السكت كما في (مختصر ابن كثير، نسيب الرفاعي ج ٤ ص ٤١٨.(
يقول بعض المتخصصين في علم الوقف والابتداء، ومَنْ تمهروا فيه عن هذا السكت الجائز: فيجوز لنا هنا عند كلمة (ماليه) أمران: إما الوقف، وإما الوصل، فإذا وقفنا على كلمة: (ماليه) نأخذ نفسا، ثم نكمل (هلك ...) طبعًا (جعله وقفًا لا سكتًا)، والوقف هنا جيدٌ لأنه رأس آية، (والوقف على رؤوس الآي من السنة، ولو كان متعلقًا بما قبله)، وهو في الاصطلاح التجويدي وقفٌ كافٍ؛ لوجود التعلق المعنوي، وعدم وجود التعلق اللفظي؛ لأن الفعل: (هلك) بداية جملة فعلية جديد ، والفاعل كلمة:(سلطانية) أي ضاع عني مَنْ ينصرني، وذهب عني مَنْ يعينني، وضاع نصيري، وفقدت ظهري، وسندي، ويجوز الوصل، فاذا وصل: (ماليه) بالفعل:(هلك) فيجوز لنا هنا عندئذ وجهان، أولهما السكتُ، بحيث نقرأ: (ما أغنى عني ماليه)، ثم نسكتُ سكته لطيفة، دون أخذ نفَس، ثم نكمل:(هلك عني سلطانيه)، وثانيهما الوصل مع الإدغام؛ لالتقاء هاءين: الحرف الأخير من (ماليَهْ) مع الحرف الأول من الفعل:(هلك)، فيدغمان إدغام متماثلين صغير، بحيث يصيران هاءً واحدة مشددة مفتوحة، والهاء في آخر:(ماليه) هي هاءُ السكت التي يؤتى بها حال الوقف فقط، فحفص عن عاصم، وبعض القراء أثبتها اتباعًا للرسم، أما بعضُ القراء الآخرين كحمزة، ويعقوب فيحذفان هذه الهاء؛ لزوال سببها، وهو الوقف، فإذا وصل يقرأ:(ما أغنى عنى ماليَ هلك عني سلطانيَ خذوه فغلوه) بحذف الهاء في الكلمتين: (ماليَ ـ سلطانيَ)؛ لعدم وجود سببها، وهو السكت، فقد تغيرت الكلمة بناءً على تلك القراءة، وراحت عنها هاء السكت.
وقراءة حفص، ومَنْ سكت على:(ماليهْ) فقد تحقق له معنًى كبيرٌ، ودلالة نقلته نقلة أخروية، لزم التنبه إليها، وهي أن طبيعة الهاء أنها لهوية، وهي ـ كما يقال ـ حرف الآهات والأحزان، فمن يتأوه يكثر من الآه، وعند بكائه تسمع منه الهاءَ كثيرًا منه، وهؤلاء الذين هم في النار الآن، وهم الذين يبكون، وينتحبون، ويقولون:(ما أغنى عني ماليه) فقد تبين من خلال السكتة وقفة بكاء منهم، ونحيب، ونشيج، وبكاء متواصل يرافقه حرفُ الهاء، فلو وصلنا راحَ ها المعنى، وانتهت تلك الدلالة.
فكلمة (مالي) دون هاء على تلك القراءة لا تبرز معها تلك الآه، وهذا الألم والتوجع، وذلك التحسر، وانفحام القلب، وتشرُّخ الحنجرة، وتورُّم العينين، واحمرار الأنف، وتقطع نياط القلب، والاصطراخ المتتابع دونما جدوى.
د.جمال عبدالعزيز أحمد ✽
✽ كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية
[email protected]