قرائي الكرام.. إن الإنسان الذي لا يحدد هدفه يكون في حياته كمن نزل بلدًا غريبة يبحث فيها عما يريد دون أن يسأل سكانها، فيصبح في تيه يخرج منه إلى تيه أكبر منه، وإذا سألته: لماذا لا ترتيب أهدافك؟ وتسعى لتحقيق أحلامك وفق ما قدر الله لك فهو سبحانه خير معين؟ تجده يقول لك: سوف أعمل! سوف أفعل! سوف كذا سوف كذا. حتى يضيع عمره وهو في مكانه يلهه الأمل، ولا يشغله العمل، وقد تجد الطالب المهمل إذا نصحته أن يجتهد، يجيبك بالتسويف، وإذا نصحت إنسانًا كسولًا لينفض عنه غبار الكسل ويجد في اكتساب عمله ولقمة عيشه تجده يتحجج بأسباب واهية، ويرجئ الأمر إلى التسويف، وإذا نصحت إنسانًا عاصيًا ليستغفر ربه ويتوب إليه تجده يسوف، وللأسف يتمكن منه التسويف فيضيع عمره، (فعَنْ عِكْرِمَةَ قال: معنى قوله:(وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) (سبأ ـ ٥٣)، قَالَ: إِذَا قِيلَ لَهُمْ: تُوبُوا، قَالُوا: سَوْفَ).
وهكذا الكثير من الناس يسوفون ولا يدركون أن أعمارهم تضييع وهو في متاهة التسويف، ولهذا فإني أعيذني وإياكم بالله تعالى من التسويف، ذلكم الداء الذي إذا تمكن من النفس تاهت وضلت فضاعت وهلكت، وقد يكون أول أسبابه وساوس الشيطان الرجيم، كما (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ) (محمد ـ ٢٥)، وقد يكون من التردد والتكاسل .
(وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا) (النساء ـ ٧٢)، وقد حذرنا الله تعالى من التسويف في كتابه الكريم فذكر لنا صورًا مما يلحق الإنسان من الندم بعد فوات الأوان، ومنها ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) (الكهف ـ ٢٨)، (عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ:(وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) (الكهف ـ 28) قَالَ: تَسْرِيفٌ)، ومنها (يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ) (الفجر ـ ٢٤)، (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُون، لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحًا فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (المؤمنون 99 ـ 100)، وجاءت النصائح الكثيرة على لسان رسولنا الكريم ـ عليه أفضل الصلاة وأكمل التسليم ـ بذمِّ التسويف والحث على الجد وبذل الجهد للوصول إلى المقاصد المرجوة، ففي كتاب (قصر الأمل لابن أبي الدنيا، ص: 139):(جاءت أحاديث عن ذم التسويف منها: عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “بَادِرُوا بِالْعَمَلِ هِرَمًا نَاغِصًا، أَوْ مَوْتًا خَالِسًا، أَوْ مَرَضًا حَابِسًا، أَوْ تَسْوِيفًا مُؤْيِسًا”)، وعنه (صلى الله عليه وسلم) قوله:(بادروا بالأعمال الصالحة سبعًا: هل تنتظرون إلا فقرًا منسيًّا، أو غنى مطغيًّا، أو مرضًا مفسدًا، أو هرمًا مفندًا، أو موتًا مجهزًا، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر)، وفي الحديث المشهور:(اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)، وقد كان للحكماء من الناس عبر العصور الوصايا الكثيرة عن ذم التسويف، فـ(عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: قِيلَ لِرَجُلٍ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ: أَوْصِ، قَالَ: احْذَرُوا سَوْفَ)، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْجَلْدِ، قَالَ: قَرَأْتُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ:(أَنَّ سَوْفَ جُنْدٌ مِنْ جُنُودِ إِبْلِيسَ) (المرجع السابق، ص:141).. فالحذر الحذر من التسويف، واستعينوا بالخبير اللطيف.
محمود عدلي الشريف ✽
[email protected]