يختار كثير من الحكماء طريقة التأمل لإيقاف الحديث الداخلي مع الذات، والذي غالبا ما يكون اجترارا للمواقف والتجارب والخبرات السلبية التي صارت جزءا من ماضي الشخص. وغالبا ما يُشكّل حديث النفس حوارا داخليا على مستوى اللاواعي، و مع تكراره يصير الشخص مذعنا للإصغاء إليه. ويطلق حكماء الصين على هذا الحوار الداخلي الصامت" القرد الثرثار" كناية عن الثرثرة المزعجة التي تنشط سلبيا في الذهن. ويبث القرد الثرثار أفكارا سلبية وذكريات مريرة وسخرية من الذات. ومن خلال هذه الثرثرة اللاشعورية يتعرض كثير من الناس إلى تدني تقدير الذات. ويصبحون في حالة شعور بالدونية وعدم الكفاءة. وفي ثقافتنا الإسلامية يرتبط احتقار الذات بالوساوس التي تنشط في العقل الباطن للشخص وتجعله فريسة سهلة للحوار الذاتي السلبي. كنت أستعيد هذه المفاهيم وأنا أستمع إلى قصة حقيقية لشخص عفوي جدا، يثق بنفسه جيدا، ويركز كل وقته وجهده في مساعدة الناس. كان مرحا جدا، ومتدينا وأريحيا وكريما. استطاع بفطرته أن يوجه حديثه الى عقله بأسلوب اإيجابي ومفيد، وقد ساعده ذلك على التواصل مع الآخرين بكفاءة، ومنحه حسا روحيا مرهفا. ونتيجة لهذا المسار الإنساني تخلص الرجل من قيود الأنانية وتحرر من الإملاق النفسي؛ فاندفع بحماس واخلاص في العمل الخيري التطوعي. وبالرغم من جهله بالقراءة والكتابة؛ فإن حركته ونشاطه ساعداه أن يسهم بفاعلية في مساعدة الآخرين وقضاء حوائجهم، وحل مشكلات المحتاجين والفقراء. وبمرور الأيام أصبح العمل الخيري أسلوب حياة وغاية نبيلة يعيش بها عامر. وفي أحد الأيام التقى بصديق له تقاعد من عمله، وأصابه الملل من الفراغ ولم يكن يدرك كيف يملأ وقته ويشغل فراغه، فأشفق عليه مما هو فيه وصمم أن يدعوه للعمل الخيري التطوعي. ونظرا للعلاقة الحميمة التي تربطه بالرجل؛ فقد ذهب إليه مباشرة وفي عفوية وتلقائية قال له: يا سالم هل تريد أن يتوقف الملك الذي يكتب سيئاتك وينشط الملك الذي يكتب حسناتك؟ فأجاب سالم: طبعا! فأقسم عامر قائلا: إنك ما أن تساعد الناس وتسعى في قضاء حوائجهم وتصلي فروضك في جماعة وتحفظ لسانك وتعمل الخير بكل أشكاله؛ فإن ملك السيئات سيتوقف ولن يجد له عملا على كتفك، وأن الملك الموكل بالحسنات سوف ينشط ويكتب حسناتك بالليل والنهار وسوف تشغله طوال الوقت بكتابة حسناتك.
خاض سالم تجربة العمل الخيري التطوعي، لازم صديقه عامر في عمله الدوؤب، وسخر وقته في خدمة الناس وعمل ما هو مفيد هموم المعسرين، وتنظيف البيئة و صون الطبيعة، و إصلاح ذات البين والعمل من خلال مجالس الاباء في المدارس لتوجيه الطلاب ونصحهم. واستمر سالم وعامر في هذه الجهود التطوعية، بصمت وهدوء. لاحظ سالم أن حياته تغيرت وشعر بالسعادة والبهجة، وأدرك فعلا كما لو أن عداد السيئات قد توقف وأن عداد الحسنات يعمل بلا توقف، ومع انشغاله وتذوقه لهذا الجهد التطوعي، صار كلامه قليلا واصبح عمله كثيرا، وتخلص تماما من التذمر والانتقاد، وبدأ حياته بعد التقاعد كما لو أنه ولد من جديد، وصارت حياته حديقة حافلة بالخير والنور والسعادة.
وبدون أن يمتلك عامر مهارات الخطابة أو التفلسف أو ناصية الحديث المنمق استطاع في صمت أن يوقف ثرثرة القرد، وأن يسكت الصوت السلبي المدمر الذي يفتك بحياة الناس أفرادا وجماعات.

د. أحمد بن علي المعشني
رئيس مركز النجاح للتنمية البشرية