تكررت المناوشات الحدودية بين صربيا وكوسوفو هذا الأسبوع، ما ينذر باحتمال تصعيد النزاع إلى حرب. وسبق قبل أسابيع أن زاد التوتر على الحدود بين البلدين وبدأ الإعلام الغربي معزوفة أن “صربيا ستحتل كوسوفو بالكامل وتضمها”. ولأن الجماهير العادية في الغرب ربما نسيت أن كوسوفو حتى وقت تفكك يوغسلافيا مطلع التسعينيات من القرن الماضي كانت إقليمًا يوغوسلافيًّا ضمن صربيا، وليست دولة سابقة ضمن الاتحاد اليوغوسلافي مثل كرواتيا وسلوفينيا. ونتيجة التدخل العسكري لحلف الناتو نهاية القرن الماضي، في سياق تقزيم الصرب بعد تفكيك الدولة اليوغوسلافية إلى جمهوريات صغيرة، بما في ذلك مقدونيا الشمالية والجبل الأسود والبوسنة والهرسك إلى جانب كرواتيا وسلوفينيا، ظل وضع كوسوفو مأزوما بين صربيا (وريثة الاتحاد اليوغسلافي مثلما روسيا وريثة الاتحاد السوفييتي) وألبانيا المجاورة. ورغم أن الغرب أعلن كوسوفو دولة قبل نحو عقدين من الزمن، إلا أنها تظل غير معترف بها من كثير من دول العالم، وسكانها مزيج من الصرب والألبان وما زالت دول كثيرة تتعامل معها على أنها “مقاطعة” وليست دولة كما كانت حتى بعد انهيار يوغسلافيا ـ مقاطعة صربية. تقع كوسوفو في مركز منطقة البلقان، وكانت بؤرة الاحتلال العثماني للمنطقة منذ نهاية القرن الرابع عشر حتى بداية القرن العشرين. وإذا كانت منطقة البلقان جنوب أوروبا توصف في التاريخ المعاصر بأنها “برميل بارود أوروبا” التي تندلع منها شرارات الحروب العالمية، فإن كوسوفو هي قلب تلك المنطقة. ويمكن القول إنها قد تكون “زناد” تفجير البارود الذي يطلق شرارة حرب واسعة. فمن غير المستبعد أن تسعى صربيا لاستعادة إقليم كوسوفو بالكامل تحت سيطرتها، خصوصا مع تنامي المشاعر القومية في دول المعسكر الشرقي التي تفككت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ونهاية حلف وارسو. وذلك أيضًا رد فعل على تنامي المشاعر القومية في الغرب ودول حلف الناتو، والتي توصف أحيانا بتوجهات اليمين المتطرف أو النازيين الجُدد. فالصرب لم ينسوا بعد الإذلال الذي تعرضوا له على يد الغرب والتدخل العسكري لحلف الناتو في العقد الأخير من القرن الماضي. يشير كثير من التحليلات إلى أن تدخل روسيا العسكري في أوكرانيا لاستعادة السيطرة على أقاليم في شرق وجنوب أوكرانيا ذات أغلبية سكانية من الروس جاء في جزء منه ردا على “استفزاز” حلف الناتو لروسيا بالتوسع شرقا ومحاولة تطويقها عسكريا. والوضع في البلقان قد لا يختلف كثيرا، وربما تكون ألبانيا الأقرب لوضع أوكرانيا رغم أنها ما زالت في مرحلة مفاوضات للاتحاد الأوروبي. أما الدولة في البلقان التي يمكن أن تقوم بدور بولندا الذي تؤديه في الصراع الأوكراني فهي كرواتيا، التي انضمت للاتحاد الأوروبي قبل تسع سنوات.
أنشئ حلف الناتو كمقابل لحلف وارسو إبان الحرب الباردة حين كان العالم ثنائي القطبية بين شرق يقوده الاتحاد السوفييتي السابق وغرب تقوده أميركا. لكن حلف وارسو انتهى قبل نحو ثلاثة عقود، ومنذ ذلك الحين يعزز الناتو مبررات وجوده، تارة بمواجهة “الإرهاب” (الذي إذا لم يوجد من نفسه يصنعه) وتارة للتدخل في نزاعات في آسيا وإفريقيا من أفغانستان إلى ليبيا. ورغم انتفاء مبرر وجود الحلف بنهاية ثنائية القطبية العالمية وحلف وارسو المقابل له، إلا أن الناتو يوسع ويعزز قدراته. ولم يكن مستغربا ما طرحته ليز تراس حين كانت وزيرة الخارجية في حكومة بوريس جونسون البريطانية حين طالبت بتوسع الناتو شرقا في آسيا لمواجهة الصين وأن يكون هناك “ناتو اقتصادي”؛ أي يضيف الحلف إلى ترسانات أسلحته سلاح العقوبات الاقتصادية. ولا يتصور أن ذهن تراس تفتق عن تلك الفكرة فجأة، حيث لا يعرف عنها إبداع ولا ذكاء، إنما هي بالتأكيد تدور في كواليس صناع القرار وداعميهم في الغرب. إذا اندلعت شرارة حرب في البلقان فلن تقتصر على عمل عسكري صربي لضم كوسوفو، وإنما ستكون استفزازا للناتو ردًّا على إذلاله بلجراد لسنوات قبل ربع قرن. ورغم أنه من المستبعد أن نشهد دعما عمليا من روسيا لصربيا في أي صراع في البلقان قد يجر الناتو إلى التدخل، لكن لا شك أن صربيا تراهن على أن العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا فرصتها لتفعل شيئا مماثلا. وعلى الأقل تستفيد من تركيز الناتو جهوده حاليا على دعم أوكرانيا. بالتأكيد يتحسب المخططون الاستراتيجيون في الغرب، وفي حلف الناتو تحديدا، لهذا الاحتمال. وإذا كانت الولايات المتحدة تخلت عن الحكمة التقليدية في سياستها الخارجية بألا “تفتح أكثر من جبهة في وقت واحد” فإن الناتو ربما يتبع النهج نفسه بالتعامل مع أكثر من بؤرة مشتعلة في أوروبا. لكل هذا، فإن حرب البلقان بين صربيا وكوسوفو قد تكون شرارة حرب واسعة النطاق طرفها حلف الناتو ودوله الغربية من ناحية وكل الدول التي ما زالت تبلع مرارة إذلال الغرب والناتو لها. ربما لا تكون “حربا عالمية” بالمعنى التقليدي الذي توصف به الحربان العالميتان في النصف الأول من القرن الماضي، فلَمْ تَعُدْ هناك امبراطوريات ومستعمرات بذات الشكل الذي كان في السابق، وإن كانت الدول الغربية (سواء تحت مسمى الناتو أو غيره من المسميات) لها قواعد ووجود عسكري في أنحاء مختلفة من العالم. وإذا كان البعض، عن حسٍّ إنساني أو نفاقا، يرى أن حربا عالمية خطرا على البشرية فربما نحتاج للتذكير إلى أن كل قفزات تطور البشرية انطلقت بعد حروب واسعة.
د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري
[email protected]