بغض النظر عن ما إذا كان اليمن قد دخل منعرجًا خطيرًا أو أُدْخِل فيه رغم أنف شعبه، إلا أن ذلك البلد يظل حالة أخرى ماثلة على عقم السياسات الإقليمية والدولية في معالجة القضايا الحساسة التي تمس استقرار الدول وأمن شعوبها. كما أن اليمن يقدم ذاته بقوة على أنه ضحية جديدة في سلسلة ضحايا "الحريق العربي" الذي سمي زورًا وكذبًا "الربيع العربي" والذي لا يزال هناك عدد كبير من المعزولين عن الواقع ومغيبي الفكر يرونه كذلك وأنه "ربيع" يواصل "إزهاره" وفق أفكارهم الشاذة والمشوهة.
وحين خرج اليمنيون إلى الميادين من أجل ما أسموه "الثورة" دفعوا أثمانًا باهظة وسكبوا دماء غزيرة حالمين ببناء "يمن سعيد" متحرر من جميع أشكال الفساد والظلم، متطلعين إلى التغيير نحو الأفضل تحدوهم الثقة في قدرتهم على رسم مستقبل مشرق لوطنهم، وجعله وطنًا حاضنًا لجميع اليمنيين بمختلف مكوناتهم وطوائفهم، دون تفريق بين مكون وآخر، ولا يتميز طرف عن آخر إلا بمقدار ما يقدمه من خدمات جليلة وسامية من أجل رفعة اليمن وخدمة شعبه، إلا أن قدر سيرهم كان أن يخرج عن المسار الذي كان يدغدغ أحلامهم، لتتقهقر بهم رواحل الأحداث، وتسحبهم أمواجها إلى حيث يريد الآخرون المتدخلون وصانعو الحريق العربي، لا إلى ما يريده الشعب اليمني وهو مجمع عليه، ما زاده رهقًا على رهقه، فأصبحت مطالبه المشروعة على قائمة "مؤجل إلى أجل غير مسمى"، ما جعل من المشهد اليمني بمختلف تلاوينه السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية وضعًا مبهمًا وضبابيًّا تنعدم الرؤية أمام كل يمني غيور على يمنه وأيضًا أمام كل مواطن عربي غيور على ذلك البلد العريق.
إن من ينظر إلى حال اليمن اليوم وما يعيشه من فراغ سياسي ومماحكات بين مختلف مكونات مجتمعه، وتدخلات خارجية تهدد بخطفه من بين أيدي أبنائه، تنقدح في ذهنه تلك المشاهد المؤلمة في ليبيا والعراق وسوريا، حيث التدخلات الخارجية في شأنها الداخلي أضاعت بوصلة الحوار من أيدي شعوبها مع حكوماتها، حيث تسبب المتدخلون في شؤونها الداخلية إما بانهيارها وتدميرها، وإما بتهجير مواطنيها وتشريدهم، جراء العقوبات الاقتصادية واستدعاء التدخل العسكري الخارجي والتحريض والتشويه، وتشجيع العنف والإرهاب وتجنيد الإرهابيين والمرتزقة والتكفيريين، وتحويل الحراكات من مطالب سلمية مشروعة إلى إرهاب وعنف وصراع طائفي مذهبي، ما جعل رقعة الإرهاب والعنف تتسع باتساع التدخلات وعمليات التحريض والتشويه والتجنيد للإرهابيين وتسليحهم، وضرب أي فرصة للحوار والحل السياسي وتشديد العقوبات الظالمة وتسوُّل التدخل الخارجي العسكري، الأمر الذي أخذ يهدد استقرار المنطقة وليس دول جوار الأحداث الساخنة.
اليوم الوضع اليمني تدق انعكاساته ناقوس الخطر ليس على اليمن وشعبه فحسب، وإنما على أوضاع الجوار الذي نعني به دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية التي وضعت بحكم الأمر الواقع أمام اختبار صعب يدعوها إلى تغليب الحكمة ولغة العقل وبلورة رؤية سياسية بتجديد المبادرة التي طرحتها سابقًا، وإدخال تعديلات عليها بعيدًا عن إلقاء الاتهامات وأساليب القوة والعقوبات الاقتصادية، بل مساعدة الشعب اليمني في الخروج من هذا المأزق الخطير وتجنيبه ويلاته، بحيث إن على دول الخليج الاستفادة من الأخطاء التي سببتها القرارات والمواقف التي بنيت على حسابات مختلفة المرامي والغايات والتي قادت ليبيا وسوريا والعراق إلى هذه الأوضاع المأساوية. فالمطلوب من دول مجلس التعاون معالجة هذا الوضع اليمني بحكمة وعدم التسرع في اتخاذ خطوات من شأنها إيجاد مستنقع وأنفاق يصعب الخلاص منها وبعيدًا عن التجاذبات الإقليمية والدولية والحسابات الخاصة، وبالاستفادة من حصاد المبادرة السابقة، إذ ليس من مصلحة بلداننا بما فيها اليمن تحويل هذا البلد إلى ساحة صراع إقليمي تستنزف مقدراته وعلى حساب أمن واستقرار وتنمية بلداننا، وتقضي على أي فرصة للتفاهم بين مكونات الشعب اليمني، وهي فرصة لا تزال متوفرة حاليًّا رغم تعقيدات الوضع، ما يجب علينا جميعًا (خليجيين ويمنيين) صم الآذان عن الدعوات الفتنوية على اختلاف عناوينها والإنصات فقط لصوت المصلحة العليا لليمن ولبلداننا إذا كنا حقًّا نريد وضع حد للحالة اليمنية الراهنة بما يحقق الوفاق بين مكونات الشعب اليمني دون انحياز أو تحزب لهذا الطرف أو ذاك أو هذا المذهب أو تلك الطائفة؛ لأن تحيزات كهذه لن تزيد النار إلا اشتعالًا، والفتنة اتساعًا، وبلداننا لن تكون بعيدة عن امتدادات ألسنة النار والفتنة .. فلتكن معالجتنا من الحكمة والحصافة ما يجنبنا شرور هذه وتلك، ولتكن أخطاء التعاطي مع الوضع السوري حاضرة ونحن نعالج الأزمة اليمنية .. حتى لا نجني حصادًا مرًّا.