يعطينا القرآن الكريم ـ من بين ما يعطينا من بركاته ونفحاته ـ أصولَ التربية الأسرية السليمة، وقواعدَ الحياة الاجتماعية القوية، وأسسَ البناء العائليِّ المتين، فيبيِّن لنا أن رب الأسرة: (الأب والأم) يجب أن يكون قدوةً لأولاده، وأن يحبَّ الجميعَ، ويوزع حنانه على أفراد الأسرة، بصورة لا تدفع بعضهم إلى المقارنة، أو الحسد، ولا يسمح للشيطان أن يتخللَ إلى عقول بعض الأبناء بأنَّ أباهم يفضِّل بعضَ إخوته عليه، أو يقدِّم حنانًا زائدًا لأحدهم على أخيه، وربما يكون الأبُ مُحِقًّا في توزيع مزيد من الحنان على طفل صغير يتيمٍ ، رُزِقَ به من زوجةٍ أخرى، يعيش مع إخوته الكثيرين من أمِّ واحدة لهم موجودة، والأم التي لهذا اليتيم، أو الطفل الصغير قد رحلتْ عن الحياة الدنيا إلى ربها، فالأبُ يحاول تعويضَ حنانِ الأمِّ بمزيد من الرعاية، وشيْءٍ من العطف، والحنوِّ، والحَدَب، والحبِّ، ولكنِّ الأولاد إذا لاحظوا ذلك بصورة متزايدة، ربما يتأثرون به، ويقارنون بين محبة أبيهم له، ومحبته لهم، فيجدون فارقًا كبيرًا في المعاملة، وإعطاء المودة، مع أنهم عُصبة، وهو طفلٌ صغير وحده، أو مع أخ له آخر من تلك الأم التي رحلت عن الحياة كلها، وتركتْ صغيرَيْها، فجاء الأبُ، وتزوج بأخرى ؛ ليوجدَ لهم جوا من الحنان المفقود، فتكون تلك أما لهذين الطفلين من حيث الرعاية، وكريم العناية، وخصوصا إذا كانت أخت المتوفاة، أي خالة للأولاد، ولكنه مضطرٌ في الوقت نفسه لأن يَرْوِيَ هذا الطفل الصغير، ويزيده من نَمير الحنان، ونهر الحُبِّ الأبويِّ، فيحاول الأبُ ـ بطبيعة الأبوة الحانية ـ أن يعطي الطفلَ الصغيرَ مزيدًا من الاهتمام، وهو يرى إخوتَه من الأمِّ الأخرى يجتمعون، ويلعبون، ويخرجون، ويعودون، وهذا الصغير يتمنى أن يكون معهم، أو مثلهم، يحقِّق ما في رغبته من اللعب معهم، ونيْل بُغيته من اصطحابهم، غير أنهم قد لا يعيرونه اهتمامًا لصغره، ولأنهم يرون أباهم قد أعطاه مزيدًا من الود ـ في رأيهم ـ أكثرَ منهم، فقد يفكِّرون في التخلص منه، وإبعاده عن طريق أبيه الذي يُعطيه مزيدًا من الحنو، والرعاية، وشيئا من الوُدِّ، والعناية يعوِّضه فقدَ حنانِ أمِّه صغيرًا، فوجهةُ نظر الأبِ صحيحةٌ، وسلوكُه غايةٌ في فهم مقام الأبوة، ولكنَّ انعكاس ذلك على فهم الأولاد وتفكيرهم قد يكون معاكسًا تمامًا لما يراه الأبُ، ولا يتفهمون طبيعة الموقف، والسببَ في هذا المزيد من الحدب، والحب، والحنان، والود، فيفكِّرون ـ كما سلف ـ في التخلُّص من أخيهم رغمَ صغرِه، ورغمَ قوتِهم، وعُصبتهم، وهنا يلزم كُلَّ أبٍ أن يحاولَ ألا يُظهر هذا الود الزائد، أو الحب الواضح لهذا الطفل أمام إخوته، ويمكن أن يرويَه منه إذا كان معه وحده، أو اختلى به، وغاب عن عينِ إخوته، فإذا كان بينهم وزَّع وُدَّهُ بشكلٍ متوازنٍ، ولا يُبِينُ هذا المزيدَ رغم وجوبِه، وضرورةِ حصولِه، وهذا ما حدث مع إخوة يوسف عليهم جميعًا، وعلى أبيهم سيدنا يعقوب (عليه الصلاة والسلام)، فرغم أنهم أبناءُ نبيٍّ كريمٍ، إلا أن الغيرة فيهم قد عملت عملها، فحاولوا التخلص من أخيهم، ولكنَّ عناية الله أدركتْه، وعادُوا في نهاية القصة إخوةً متحابين، تعلَّموا الدرسَ جيِدًا، وتعلمنا معهم نحن كذلك دروسًا في الحياة الاجتماعية والأسرية، وطلبوا من أبيهم ومن أخيهم العفوَ، والصفحَ لما بدر منهم، وأنه كان سلوكًا خاطئًا، وعفا الجميعُ، وعادت الأسرة أقوى ما تكون، وصاروا أنبياءَ بفضل الله تعالى، وبقيتْ قصتهم درسًا للدنيا كلها.



د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية
[email protected]