حديثنا عن الدراسات الاستراتيجية والاستشرافية دائما ما يتكرر، وبكل تأكيد سيستمر التذكير به لأهميته، فكيف إذا كان الحديث عن هذا النوع من البحوث والدراسات يدور حول دورها وقيمتها التي تصبُّ في الصالح الوطني؟
الدراسات الاستراتيجية والاستشرافية تُشكِّل الذخيرة الفكرية والمعرفية التي يمكن من خلالها الحصول على بعض الإجابات والحلول المعلبة في وقت الأزمات والاحتياجات المفاجئة، فهي رصيد الحاضر للمستقبل، وبنك من المعارف والأفكار الجاهزة التي تحولت في لحظة من اللحظات إلى صمام أمان وسبب من أسباب تقليل الهدر في الوقت والجهد.
على المستوى الوطني ـ ولله الحمد ـ هناك اهتمام لا بأس به بهذا النوع من التوجُّهات المعرفية والفكرية في السنوات الأخيرة، لدرجة تحوُّل العديد من المؤسسات الأكاديمية في توجُّهاتها التعليمية إلى مثل هذا النوع من الدراسات كما هو الحال في جامعة السُّلطان قابوس ومركز الدراسات المستقبلية بالأكاديمية السُّلطانية للإدارة وأكاديمية الدراسات الاستراتيجية والدفاعية، ما يؤكد الوعي والإحساس بأهمية المستقبل ومخاطره وتأثيراته، والتي بلا شك يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار والحذر من جهة، والعمل على تفادي مخاطرها واحتواء آثارها السلبية على المستوى الوطني.
وقد أكد كبار المفكرين والباحثين العرب وغيرهم من المتخصصين في الدراسات الاستراتيجية والاستشرافية على أهمية هذا النوع من المعارف والعلوم مثل الدكتور محمد النابلسي (رحمه الله) والدكتور مهدي المنجرة والدكتور قسطنطين زريق وفرد بولاك وهيربرت ويلز (1 )، لعل أبرز ما يمكن نقله عنهم كعِبر وملاحظات هي: أهمية الإعداد المناسب للمستقبل في الزمن الحاضر فغياب الإعداد المناسب يجلب الكوارث ويرفع درجة المخاطر والخسائر، كما أنه من المهم للغاية استباق تقدير احتياجات المستقبل حتى يسهل التعامل والتعايش معه لكونه سيكون الحاضر حينها.
على ضوء ذلك وعلى المستوى الوطني الداخلي هناك العديد من القضايا التي يجب أن يتم التركيز عليها بالدراسة الاستراتيجية والاستشراف في وقتنا الحاضر لتحقيق الأهداف التي سبق الإشارة إليها ولتفادي العديد من الكوارث والمخاطر التي يمكن أن تؤثر سلبا على الأجيال القادمة أو الذين سيتواجدون في الزمن القادم، ومن أبرز القضايا الاقتصادية مسألة الباحثين عن عمل ومسألة تنوع مصادر الدخل الوطني، ومن القضايا السياسية مسألة تعزيز الثقة في الحكومة، بالإضافة إلى تعزيز وتوسيع دور المشاركة السياسية للمواطنين في الحياة السياسية، خصوصا الكفاءات الوطنية التي تحتاج إلى مزيد من الاهتمام ووجود آليات ووسائل تضمن تمكينهم وإنصاف جهودهم.
من الجانب الأمني وهي من المسائل الغاية في الأهمية المستقبلية الدراسة والاستشراف حول كل ما يتعلق بقضايا الإرهاب، خصوصا الأسباب الثانوية المؤدية إليه مثل الفقر وعدم توافر فرص العمل وحالات الامتعاض والسخط الناتج عن سوء الإدارة الحكومية. طبعا هناك جوانب قانونية تحتاج إلى دراسات استشرافية واستراتيجية هي الأخرى مثل القضايا التي ترتكز على مسائل تضارب المصالح الوطنية وقضايا الفساد وحماية المال العام، بالإضافة إلى أهمية مشاركة المواطن بطريقة ما صناعة النص القانوني، طبعا القضايا السابقة هي على سبيل المثال لا الحصر.
إذًا الدراسات الاستراتيجية والاستشرافية مهمة للغاية في المرحلة الوطنية القادمة، والأهم من ذلك تمكين واختيار الكفاءات العلمية والمهنية المناسبة لها في مختلف المجالات، فالاختيار الصحيح والمناسب للعقول التي ستدير المستقبل يؤدي إلى نتائج سليمة وقرارات صحيحة، وبالتالي نتائج لا شك أنها ستوفر الكثير من الوقت والجهد لتعزيز دورنا ومكانتا الوطنية في المستقبل، سواء كان ذلك في الداخل الوطني أو الخارج الدولي.
في الجانب الآخر اختيار الأشخاص غير المؤهلين أو المناسبين لإدارة المرحلة الوطنية القادمة لا شك أنه سيؤدي إلى نتائج غير محمودة وقرارات غير مناسبة أو صحيحة، بالتالي سنجد وطننا وأنفسنا في مواجهة مخاطر وكوارث مستقبلية كان يمكن تفاديها لو عملنا بشكل مهني.
حفظ الله عُمان الوطن والشعب والقيادة من شر الكائد الحاقد الفاسد الحاسد.. اللهم آمين.
ـــــــــــــــ
مراجع
1 ـ -للتوسع حول موضوع الدراسات الاستشرافية والمستقبلية راجع. د. محمد بن سعيد الفطيسي، مستقبل في قبضة اليد، مدخل نظري إلى مناهج الدراسات المستقبلية وأساليب التفكير المبكر، مكتبة الضامري/ سلطنة عمان، ط1/ 2014م


محمد بن سعيد الفطيسي
باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
رئيس تحرير مجلة السياسي – المعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
[email protected]
MSHD999 @