[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/khamis.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]خميس التوبي[/author]
لم يتأخر طويلًا الرد الصهيو ـ أميركي على الزيارة التاريخية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى مصر ولقائه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، واتفاق موسكو والقاهرة على رفع مستوى التعاون في المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية، توج ذلك بتوقيع البلدين عددًا من الاتفاقيات الاقتصادية والعسكرية التي تعكس رغبة كلا البلدين في إعادة نفث الروح في العلاقات التاريخية بين مصر والاتحاد السوفيتي السابق، كما تعكس توجه قيادتي البلدين نحو تنويع العلاقات والشراكات ومجالات التعاون وتوسيعها والتي تضفي مزيدًا من الديناميكية السياسية، وهامشًا كبيرًا في المناورة في مواجهة الخصوم انطلاقًا من الإيمان بالتعددية القطبية، ورفض القطبية الأحادية خاصة من قبل روسيا الاتحادية.م
غير أن هذا الرد الصهيو ـ أميركي لم يرتقِ إلى مستوى الحدث فيأخذ صيغًا دبلوماسية ومواقف سياسية تعبيرًا عن هذا التقارب الروسي ـ المصري وإحياء العلاقات التاريخية بين الاتحاد السوفيتي السابق ممثلًا بوريثته روسيا الاتحادية ومصر، بحيث يمنع خروج مصر عن الحظيرة الصهيو ـ أميركية التي أقامت مظلتها اتفاقية كامب ديفيد المشؤومة، وإنما جاء الرد كالعادة على شاكلة "الكاوبوي" و"الهاجاناة وشتيرن وأرجون" بذبح واحد وعشرين مصريًّا قبطيًّا في ليبيا من قبل "داعش" الإرهابي وبإخراج هوليودي لفيلم الجريمة الإرهابية مثلما جرى مع حرق التنظيم الإرهابي للطيار الأردني معاذ الكساسبة.
لقد نجح الرئيس الروسي عبر زيارته التاريخية لمصر في إيصال رسائله إلى خصومه وأعداء بلاده الذين يشحذون سواطير إرهابهم ويؤججون نيران مؤامرتهم لخنق الدب الروسي وقطع الهواء والماء الدافيين في أوكرانيا ودول البلطيق وسوريا وإيران، ومضاعفة النشاط العسكري لحلف شمال الأطلسي وتشديد العقوبات الاقتصادية بأن روسيا لن تفرط في أصدقائها وحلفائها وشركائها، ومستعدة للتضحية من أجلهم، وأن المبادئ والقيم غير معترف بها عند الأميركي. فبوتين أعطى درسًا عمليًّا ومجانيًّا للولايات المتحدة في معنى العلاقات في مختلف مجالاتها، والتي يجب أن يكون عصبها الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة والاستفادة المتبادلة، وعدم التدخل في الشأن الداخلي، وتقدير معنى السيادة والاستقلال للدول، حيث كانت الاتفاقيات الاستثمارية الموقعة بين موسكو والقاهرة ومنها تشييد محطة كهرباء تعمل بالطاقة النووية دليلًا واضحًا على المعنى الحقيقي للعلاقات، وخاصة حين تكون العلاقات مع قامات دول كمصر، إضافة إلى ذلك عزم روسيا على تزويد مصر بمنظومة صاروخية تحفظ بها أجواءها وسيادتها وتكسر بها التوازن المائل لصالح كيان الاحتلال الصهيوني الذي يرعى سرًّا وعلانيةً نوعية المساعدات الاقتصادية والعسكرية الأميركية لمصر في عهدي أنور السادات وحسني مبارك، حيث ممنوع صهيونيًّا على الولايات المتحدة أو بريطانيا أو فرنسا أو ألمانيا القيام بتزويد الجيش المصري بمنظومات صواريخ بعيدة ومتوسطة المدى، وهو ما يعني انتقاصًا من سيادة مصر واستقلالها. فمنذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد المشؤومة وحتى ثورة الثلاثين من يونيو كان على مصر أن تقدم أثمانًا باهظةً من سيادتها واستقلالها للصهيو ـ أميركي، حيث ظلت مصر طوال هذه الفترة في الأبجديات السياسية والعرف السياسي للصهيو ـ أميركي إحدى جمهوريات الموز التابعة للولايات المتحدة، واقعة في أسر المساعدات الاقتصادية والعسكرية، معطِّلةً بذلك دورها التاريخي تجاه القضايا العربية. وبحكم سطوة هذه المساعدات وشروطها التي تعد دلالة على انتقاص السيادة المترتب على اتفاقية كامب ديفيد، ممنوع على الحكومة المصرية استصلاح الأراضي والتحول إلى الاكتفاء الذاتي من الحبوب وغيرها، بل عليها أن تدفع بالشمال ما تأخذه باليمين من المساعدات الأميركية لشراء القمح الأميركي، ما نتج عن ذلك غزو الإسمنت للأراضي الزراعية، ولمن يرغب في معرفة المزيد عليه أن يقارن بين ما أقامه الاتحاد السوفيتي السابق في عهد جمال عبدالناصر من منشآت في مصر، وحجم الدمار الهائل الذي أحدثته فيها الولايات المتحدة في إطار ما تسميه علاقاتها طوال أربعين عامًا.
ومن بين الدروس العملية والمجانية التي قدمها الرئيس الروسي للأميركي أن العلاقات بين الدول لها وجه واحد فقط، وهو أن تقوم على الاحترام والمصالح المشتركة ورفض التدخل في الشأن الداخلي والتعاون الشامل، وأن ما عداه خيانة وغدر وخسة وتآمر، وهو ما ظهر بشكل سافر ليس ضد مصر وحدها وإنما ضد دول المنطقة. فما صرحت به هيلاري كلينتون في كتابها "خيارات صعبة" عن دعم بلادها لحركات إرهابية ومتطرفة ومتشددة وتابعة لها في المنطقة، وما سربه إدوارد سنودن عميل الاستخبارات الأميركية "سي آي إيه" عن أن الاستخبارات الأميركية والبريطانية والإسرائيلية هي التي صنعت "داعش" لجلب المتطرفين من جميع أنحاء العالم، وأكده فيما بعد "تشارلز شويبردج" ضابط الاستخبارات البريطانية في جهاز مكافحة الإرهاب أن الاستخبارات البريطانية والأميركية تقفان وراء كل الأحداث التي تعصف بدول في الشرق الأوسط مثل سوريا والعراق وليبيا، وأن هذه الاستخبارات دفعتا دولًا خليجية لتمويل وتسليح تنظيمات مسلحة في مقدمتها "داعش" الذي أصبح الذراع الأميركية الطولى في المنطقة توجه إلى حيث يشاء الأميركي ليضرب بها خصومه وينفذ بها مشاريعه الاستعمارية، ولذلك من يدمر في العراق وسوريا ومصر وليبيا واليمن ولبنان وتونس ويقتل ضباط وجنود جيوشها وشرطتها هو الأميركي بذراعه "داعش والنصرة والقاعدة والجبهة الإسلامية والجيش الحر" وغيرها الممولة خليجيًّا. وبالتالي لا استغراب أن يضرب "داعش" بإرهابه الجيش المصري والمواطنين المصريين داخل مصر وخارجها كما هو الحال في ليبيا وذبح واحد وعشرين مصريًّا، فهو إرهاب صهيو ـ أميركي غربي تركي وبعضه عربي يأتي في إطار الرد على التحول الجديد الذي تريده مصر بتغيير علاقاتها وتوسيعها تأكيدًا على كينونتها وهويتها وتاريخها وحضارتها ودورها المؤثر والذي بدأ من روسيا الاتحادية، وكذلك يأتي في إطار قائمة الأهداف الصهيونية المراد تدميرها التي وضعها بن جوريون أول رئيس لحكومة كيان الاحتلال الصهيوني: "عظمة "إسرائيل" ليست في قوتها الذرية ولا ترسانتها المسلحة، ولكن عظمة "إسرائيل" تكمن في انهيار ثلاث دول؛ مصر والعراق وسوريا، ونجاحنا في ذلك ليس بذكائنا وإنما بغباء الآخر". وأيضًا في إطار إعادة إحياء مخطط تقسيم مصر الذي سقطت مؤخرًا الأقنعة التي كانت تقف وراءه بإقامة وطن للمسيحيين الأقباط في مصر بدعوى أنهم مضطهدون من قبل المسلمين ومنتقصة حقوقهم.
إذًا، هناك فرق كبير وشاسع وعميق في المعنى والدلالة، بين تلك الهدية التي قدمها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى نظيره المصري وهي عبارة عن بندقية كلاشينكوف، وبين هدية الأميركي لمصر كلها بُعيْدَ زيارة بوتين مباشرة بذبح واحد وعشرين مصريًّا تأكيدًا على نجاحه في زرع منتجه "داعش" في ليبيا الخاصرة المقابلة لخاصرة سيناء. فما يجري بكل بساطة هو نصب فخاخ للجيش المصري ومحاولة جره إلى هذه الفخاخ في سيناء وليبيا، وجارٍ إعداد فخ اليمن عند باب المندب، وعملية الاستدراج هذه يتوقف عدم نجاحها على فهم الواقع وقراءة الأحداث بصورة جيدة وإدراك مخطط المؤامرة من قبل القيادة المصرية والشعب المصري.