لم تَعُدْ “للأُمِّيَّة” دلالة واحدة، إذ سرعان ما اكتسب اللفظ معاني إضافية تستحق الملاحظة. ولا يخفى على الغالبية العظمى من القرَّاء العرب في أن “الأُمِّيَّة” تعني عدم معرفة القراءة والكتابة حرفيًّا، بَيْدَ أن الثقافة العالمية المعاصرة قد أضافت عنوانًا آخر إلى هذا اللف، إذ أطلقت عليه “الأُمِّيَّة المقنَّعة” والمقصود بـ”المقنَّعة” في هذا السياق أن المرء يتقن القراءة والكتابة بلُغته الأُم أو بإحدى اللغات، بَيْدَ أنه “أُمِّي” في سلوكياته وطرائق تفكيره، في حالة من الجهل مدقع بكل شيء عدا القدرة على التهجي.
من هنا، يمكن للمرء أن يرفد مفهوم الأُمِّيَّة بدلالات إضافية أوسع في “عصر التخصصات” الذي نحياه الآن: فهذا الشخص مهندس، ولكنه أُمِّي بقدر تعلق الأمر بالصحة والطب والتمريض، وهكذا دواليك. ولا ينبغي أن ننسى المعيب من أشكال الأُمِّيَّة الواسعة الانتشار اليوم، أي الأُمِّيَّة السيبرانية: Cyber literacy، أي الأُمِّيَّة في معرفة الفضاء الرقمي الذي تعتمد عليه كافَّة الحواسيب (الكومبيوترات) عبر العالم!
لذا، يكون من الأحوط للمرء (إن كان متوازيًا) أن لا يتجاوز حدود ما يعرفه ويتقن التعامل معه، تخصصًا، بل والإبداع به: لذا، ينزعج الحدَّاد عندما يحاول النجار أن ينصحه أو أن يلقنه شيئًا هو أبعد الحرفيين معرفة به. النجار هنا يكون أُمِّيًّا بقدر تعلق الأمر بمهنة الحدَّاد! والعكس صحيح.
والحقُّ، فإن هذه هي واحدة من ميزات الإنسان العارف، وهي أن يتحاشى الادعاء بأنه يعرف كل شيء، كي لا يدَّعي ما هو ليس فيه، وأن لا يحشر نفسه بما لا يعنيه من شؤون وبما لا يفهمه من المواضيع. بل، إن للمرء أن يزداد احترامًا لكل شخص يقول له، معتذرًا: “هذا ليس من اختصاصي، بل إني “أُمِّي” في هذا الحقل أو ذلك.
وتدل التجربة اليومية والعملية على أن هناك حالات تجاوز نرجسية هي مدعاة للاستهجان، من نوع حالة خريج ثانوية زراعة يذهب للفلاح ليلغي تجربته المتوارثة، أبًا عن جد، وهو يحاول أن يبز معلمًا حرفيًّا بنَّاء، رجلًا قضى حياته، منذ صباه وهو يضع لبنات البناء الواحدة فوق الأخرى من أجل إقامة جدار، بالرغم من أن الأُمِّي المتطفل قد يكون خريج تخصص “هندسة مدنية”، ولكنه لم يجرب عملية بناء جدران أو فضاءات للعيش!

أ.د. محمد الدعمي
كاتب وباحث أكاديمي عراقي