تضع مخرجات السجون والمؤسسات الإصلاحية المجتمع أمام واقع جديد عليه أن يتعامل معه بوعي ويتصرف نحوه بحكمة، ويمتلك الأدوات والآليات التي تتناسب مع طبيعة الحالات والظروف والمتغيرات التي أسهمت فيها، في سبيل بلوغ النزيل حياة سوية في مجتمع يحترمه، ويمنحه قدرا من الاهتمام الذي يستحقه، عبر ممارسة حياتية اعتيادية راقية، تبقى فيها صبغة التقييم حاضرة، وتظهر فيها بقوة مشاعر الندم واللوم والعتاب، وتبرز فيها بثبات صفة إثبات الذات والاستعداد الداخلي نحو التغيير، وإعادة إنتاج الحياة في ثوب العفة والنزاهة والشهامة وحضن المبادئ وحصن القِيَم، والجدية في إزالة كل الحواجز، للوصول إلى أفضل مستويات الرقي الفكري والسلوك الأدبي. إنها مرحلة للتجريب وإعادة رد الاعتبار للنفس، ونظرة متأنية فاحصة للذات وتقييم للممارسة، وخروج بحلية جديدة وخصال متجددة، وقناعات موائمة تتكيف مع واقع حياة الأفراد، وتجميع لمُقوِّمات الفكر والقلب وتكاملها من أجل صياغة لحن الحياة في قالب البر والإحسان، والتقوى والإيمان، والمسؤولية والالتزام، تبدأ بقناعات يحملها المجتمع نحو النزيل بعد خروجه من مؤسسات الإصلاح، لتتجه نحو تعميق مستويات الأمل والتفاؤل بالإصلاح، ومنح الذات فرصا أكبر للحياة في إطار الفطرة السوية، ولترك الفرصة له لمقارنة حالته وهو في السجن ومؤسسات الإصلاح أو وهو حر طليق يعيش حياته بأمان ويبني حياته في ظل معايير المجتمع وقِيَم الدِّين، وبالتالي تتصاعد الآمال نحوها لقراءة الحياة في جمالياتها وعطائها وتسامحها وعفويتها ورقيها وذوقها، ويصبح قوة تأثير المجتمع ووعيه في التعامل مع مرحلة ما بعد السجن ومؤسسات الإصلاح مرهونا بالقناعات التي يحملها السجين ذاته بأن عليه أن يعيد تقييم مساره وإصلاح حاله وضبط ممارساته وتقوية مناعة الرقابة الذاتية وزيادة هرمون الصدق والاعتراف فينظر للحياة بمنظور جديدة، إذ إنه يعيش مرحلة تحدٍّ مع النفس، وإثبات للجدارة، وحكمة في المواقف، واحتياجه للآخر الذي يوجهه وينصحه ويأخذ بيديه إلى بر الأمان، ويجنبه وسوسة النفس والشيطان ورفقاء السوء، فهو مطلوب منه عمل أكثر قوة، وأقوى رجاحة، وأمضى صلابة، لتتغير ثقافة المجتمع نحوه، ويبني على ملاحظة سلوكه وتقييم ممارساته، صورة أخرى جديدة تضعه في قالب الثقة وحس المسؤولية، وليقرأ في تصرفاته وممارساته لما بعد السجن مثالا للالتزام، والتعاون وحُسن الخُلق، وقوة التواصل، والارتباط بالآباء والأجداد، والدخول في عمق أحداث المجتمع، والاستفادة من كل فرص النجاح فيه، وتوظيف مساحات الحوار والتواصل، وعندما يجد المجتمع منه إقداما ورغبة، وصلابة وقوة، وسعيا وعملا، فسيباركه المجتمع، ويجد فيه عونه وقوته، فتتغير نظرة المجتمع إليه، وتنمو فضائل المعروف نحوه، وتكثر كلمات البر في وصفه، ويقوى بين الناس شأنه، ويسمو بين الجميع ذكره، فيصبح مثالا للنجاح، عنوانا للفضائل.
إن من أكثر التحدِّيات التي تواجه مخرجات السجون والمؤسسات الإصلاحية هو التأثيرات النفسية والاجتماعية التي تظل تطاردهم حتى بعد الإفراج عنهم، إلى حد التحكم في عملية تكيفهم مع المجتمع من جديد، وبالتالي تبرز قيمة أساليب الخطاب الاجتماعي والأسري القائمة على الذوق وإدارة المشاعر وفرص الاحتواء، وتقدير والظروف كأحد المحددات المهمة التي ينبغي أن ينطلق منها وعي المجتمع، في سبيل تجنيب السجين الحساسية النفسية المفرطة، سواء من النقد أو التقوُّل أو اللغط في حقه أو الغلظة والاستهزاء به أو تذكيره بمساوئه، أو التراكمات السلبية السابقة. وهنا تأتي قيمة الاندماج الاجتماعي كمدخل لإزالة الرهبة والخوف من الواقع الجديد، فهو يعيش مرحلة السلبية والانطوائية، والانزواء عن الأعين، والبُعد عن الناس وتجنب مخالطتهم. غير أن قدرة المجتمع على إدماج النزيل في الحياة العامة، من شأنه أن يخلق نوعا من الألفة مع الواقع الاجتماعي المحيط، بما يساعده على التكيف معه، والتقارب مع عادات المجتمع ومخالطته أفراحه ومناسباته الوطنية والاجتماعية، أو حضوره مجالس العزاء، وإشراكه في الفرق التطوعية ولجان العمل المناسبة لقدراته ومشاركته في الجلسات واللقاءات والنزهات الترويحية، سوف تسهم في تحقيق تحوُّل نوعي في سلوكه، يشعره بأنه في مجتمع يحترمه ويقدر ظروفه ويعمل على توجيهه ويبصره بما غفل عنه، بما يعزز لديه قِيَم المسؤولية الاجتماعية، نحو الأسرة والأبناء والبيت والأولاد والأرحام والأقارب، والمساهمة الفاعلة في خدمة المجتمع وتنميته. وعليه تصبح إدارة المشاعر النفسية وتغيير العادات والقناعات السلبية منطلقا لبناء استراتيجيات الحياة وتعميق روح التآلف والتعاطف والتقارب والتواصل، ورفع درجة الإيجابية والتفاؤلية لدى النزيل، بأنه يعيش حياة جديدة وميلاد عمر جديد، وأن هناك تحوُّلا حاصلا في سلوكه نحو الأفضل، لذلك تصبح كلمات التشجيع وعبارات التحفيز والاهتمام والزيارات والمتابعات والإنصات له، وتلبية دعوته للمناسبات الاجتماعية، محطة مهمة لتقليل حواجز الصد، وبناء فرص أكبر لتقريب المشاعر وعلاقات الود، ورد الاعتبار ليستفيد من دروس الماضي ومواقفه وأحداثه وسقطاته ونكباته، في بناء حياته المستقبلية في سعادة واطمئنان ورضا وإيمان وقِيَم وحُسن خُلق.
وتبقى الإشارة إلى أن جهود شُرطة عُمان السُّلطانية ـ ممثلة في الإدارة العامة للسجون ـ في تجسيد هذه الصورة الإيجابية لإنتاج مخرجات تمتلك روح المبادرة والمبادأة بالتغيير الذاتي والإصلاح الشخصي، بات إحدى أهم أولويات شُرطة عُمان السُّلطانية في ظل جملة المرتكزات التي أصلتها في إدارة السلوك الإصلاحي للنزلاء والنزيلات في السجن المركزي بولاية سمائل، في مختلف المجالات التي تسهم في إحداث تحوُّل إيجابي متكامل ومستدام في سلوك النزيل ومخرجات السجن، سواء في مجالات التعليم والتثقيف، والوعظ والإرشاد الديني، والتدريب المهني والحرفي، والرعاية الصحية، والإصلاح والتأهيل الاجتماعي والنفسي، وما تقدمه من رعاية وعناية قائمة على مبادئ الإنسانية والاحترام وتوفير البيئة المناسبة للعيش، وتوفير البرامج الترويحية والرياضية والتطويرية والمهنية والتعليمية له لحين خروجه من السجن والمؤسسة الإصلاحية، ومع القناعة بأن بناء الإنسان وإعادة إنتاجه بفكر جديد وحياة متجددة وقناعات تبني فيه الثقة والصحة النفسية والجسدية والتغيير الذي ينعكس إيجابا على ما يتركه من بصمات إيجابية في المجتمع بعد خروجه من السحن، بحاجة إلى تكاتف الجهود وتكامل الأطر وتفاعل الموجهات، لذلك كانت الحاجة إلى حضور فاعل لمؤسسات الدولة المعنية، ومؤسسات القطاع الخاص والجمعيات المهنية والشبابية والتطوعية ومساهمتها كل في مجال اختصاصه، في إيجاد المصادر البديلة الداعمة والبرامج التطويرية، وتوسيع الخيارات المتاحة لمخرجات السجن المركزي ممن يمتلكون روح التغيير وتبرز فيهم نتائج العقاب وتظهر في اهتماماتهم قِيَم المسؤولية والإخلاص وعبر فتح المجال لاستقطاب ذوي المهارات والكفايات منهم في أنشطة وقطاعات الإنتاج المختلفة، سواء من خلال الحوافز المقدَّمة لهم بفتح مشاريع اقتصادية واستثمارية جديدة، أو من خلال توطين منتجاتهم الشخصية واستثمار مواهبهم الذاتية وتعظيم قيمة المهارات التي تم اكتسابها في السجن المركزي لمزيد من إثبات التحوُّل ورصد التغيير وترك بصمة إنجاز تعيد تقييم الصورة السلبية التي كانت حاضرة في ذاكرة المجتمع حول هذا النزيل وسلوكه العام ومواقفه.
أخيرا، فإن مشاركة شُرطة عُمان السُّلطانية ـ ممثلة في الإدارة العامة للسجون ـ الأشقاء بدول مجلس التعاون الخليجي في أسبوع النزيل الخليجي الموحد الذي تم تدشين فعالياته يوم الخميس الثاني والعشرين من شهر ديسمبر لعام 2022 والذي جاء هذا العام تحت شعار “لنفتح أمامهم الأمل والعمل” محطة مهمة في تبادل الخبرات وأفضل الممارسات الإيجابية بين دول مجلس التعاون الخليجي في التعامل مع مخرجات السجون، وبناء تشريعات وسياسات وخطط لتعزيز المسار الإصلاحي المستدام في نزلاء السجن، وفي الوقت نفسه محطة لبناء نافذة الأمل للتغيير القادم الذي ينطبع على سلوك نزلاء السجن المركزي ونزيلاته، وبوابة دخول لمرحلة جديدة في الحياة تقف بكل جدية ومهنية على خطوات العطاء والإنجاز وتتجه نحو أشرعة البناء والعمل والإنتاج، رسالة يراد منها أن الحياة لا تتوقف عند مرحلة الخطأ، وأنه من الخطأ والعيب البقاء على نفس المسار، وأن إرادة التغيير وعزيمة المراجعة عندما يرافقها الصدق والإخلاص والإيمان والخُلق وحياة الضمير سوف تصنع الفارق، فإن ما يحمله أسبوع النزيل الخليجي من مبادرات وبرامج وابتكارات ومعارض ومنشورات ومواقف تحكيها بصمات النزلاء وإنتاجاتهم ومواهبهم وقدراتهم واستعداداتهم، وقفة مهمة يتشارك فيها المجتمع تحقيق أهدافه أفرادا ومؤسسات ومسؤولياته في ترسيخ معالم الوعي بطبيعة هذا الدور وفي التعامل مع مخرجات السجون والمؤسسات الإصلاحية، فإن ما يجسده معرض منتجات نزلاء ونزيلات السجن المركزي والذي تم تنفيذه هذا العام بالتعاون مع المركز التجاري “عمان مول” يُمثِّل محطة مهمة في سبيل إعادة تصحيح الواقع والمفاهيم المغلوطة والتراكمات السلبية التي ما زالت ترافق مخرجات السجن، وإنتاج الذات اللوامة، ورسم صورة مكبرة للحياة في ظلال الصلاح وسلوك الوعي والالتزام وحِس المسؤولية وصدق المنهج وسُمو الروح، بما يدفع النزيل نحو سلوك الصلاح والإصلاح، ويبني فيه الأمل للتغيير، بغدٍ مشرق ينفع فيه نفسه ومجتمعه، ويكون أداة خير له ولوطنه.


د.رجب بن علي العويسي
[email protected]