اعداد ـ علي بن سالم الرواحي
ثمة سؤال لماذا التكرار في قصة موسى (عليه السلام) اكثر من غيرها من القصص النبوية, حتى إن بعضها كقصة سيدنا يوسف عليه السلام لم تذكر إلا مرة واحدة, والجواب عند بعض من تأثر بالمستشرقين هو تأثر القرآن بالبيئة اليهودية المسيطرة دينياً على العرب حيث كان اليهود يتلون أخبار موسى وفرعون عليهم, وهم يريدون أن يقولوا أن القرآن من كلام محمد وليس كلام الله تعالى المنزل عليه (صلى الله عليه وسلم), والصحيح للناظر أن العرب دينياً غير متأثرين باليهودية فلم نسمع عن عربي هناك قد تهود بل كان أغلب العرب يعبدون الأصنام بشتى أنواعها من كواكب وقمر وشمس وأوثان وبعضهم أقل القليل تنصّر بينما البعض الآخر أقل القليل تمسكوا بدين الحنيفية التي هي ملة أبونا ابراهيم (عليه الصلاة والسلام), وبالعكس قد كان آنذاك عداوة بين العرب واليهود فاليهود كانوا يستفتحون بنبي سيأتي قريباً حتى ينتصر لهم من العرب فلما جاء النبي (صلى الله عليه وسلم) كفروا من بعد علمهم به, ومن ناحية أخرى يأتي التساؤل إن كان القرآن من إلقاء يهودي فلماذا يسفه أحلام اليهود وينكر عقائدهم ويدعو إلى محاربتهم وكان من المعقول أن يؤيد عقائدهم وأحكامهم وسيرتهم, هذا وكثيراً ما كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول نحن أولى بموسى منهم وذلك من منطلق العقيدة, فاليهود قد خالفوا عقيدة نبيهم (عليه الصلاة والسلام), وكثير ما كشف الله خباياهم و فضح نواياهم كما قال الله تعالى:(وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا)(المائدة ـ 64), وقال أيضاً سبحانه:(كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)(المائدة ـ 79),,, ويقول الناظرون أن هذا التكرار الكثير منشأه التشابه الكبير بين الدعوة الموسوية والدعوة المحمدية ـ على صاحبيها أفضل الصلاة والتسليم ـ لذا قصها الله على نبيه الكريم تسلية وتثبيتاً لقلبه و تصبيراً له حتى يبلغ رسالته وتصبيراً للمسلمين, فكلاهما وُلِد في بيئة كافرة متسلطة وكلاهما واجه الظلم من تلقاء تلك البيئة ففرعون كان يذبح ابناء بني اسرائيل وكان يستحيي نساءهم وكان يستعبدهم, اما محمد (صلى الله عليه وسلم) فقد واجه قريشاً والعرب من ورائها حيث استحوذ عليهم سلطان القبيلة تخضع العبيد للسادة والضعفاء للأقوياء فقاموا بتعذيب الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأتباعه كبلال بن رباح و كآل ياسر: ياسر وزوجه سمية وعمار حيث قتلوا ياسر وسمية وجوعوهم في شعب أبي طالب ما يقارب من ثلاث سنوات , وقد تآمروا على قتل الرسول (صلى الله عليه وسلم)، كما تآمر الأقباط على قتله عندما أخبروا فرعون بأنه قاتل القبطي بواسطة إقرار الاسرائيلي الذي كان يقاتل القبطي, لكنه خرج من البلاد الفرعونية بعد أن أعلمه مؤمنٌ بتآمرهم, كما قام فرعون بقتل السحرة المؤمنين من بعد تعذيبهم رحمهم الله جميعاً, وكلتا الدعوتين قامت بتأسيس مجتمع جديد مؤمن مستقل بعد أن أزال الله ظلام الظلمة وقبضهم الله أشد قبضة, وبما إن كان يهود المدينة كانوا يحتضنون المنافقين ويدسون فيهم الدسائس على المسلمين وأهله ويفتعلون الشبهات المتواردة على القرآن لتشكيكهم في عقائدهم اليقينية, ومضوا على ذلك حتى في عهد الخلفاء الراشدين وإلى يومنا هذا , لذلك كان من المناسب بمكان أن يفضحهم الله ولما كان كيدهم كبيراً جداً وهم أشد الناس عداوة للمسلمين كان التكرار ـ وهو في الحقيقة تبيين مجمل وإكمال نفصٍ وإظهار لقطة جديدة في القصة - لنقض مكرهم والرد على شبهاتهم ـ
من هنا نقف على المشهد الأول من قصة سيدنا موسى فقد ورد ذلك في موضعين يكمل بعضهما بعضا:
1 ـ (إنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ، وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ، وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ، فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)(القصص 4 ـ 13).
2 ـ (إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى، أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي، إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا .. )(طه 38 ـ 40).
في سورة القصص بيان لنعمة الله على بني اسرائيل كافة برفع الظلم الفرعوني عنهم واسكانهم مستقرين في أرض ممهدة لهم وإبادة النظام الفرعوني لذلك ناسب المجال أن يذكَر ظلم فرعون لهم فعِظَم النعمة تكون بِعِظَم مقدار تنعيم المنعَم عليه بها بالمقارن إلى ما قبلها, ولما كانت الواسطة لتحقيق ذلك هو إرسال موسى (عليه السلام) إلى فرعون ناسب ذكر ذلك لأنه قد كاد أن يُذْبَح كن تدراكته نعمة الله وذلك بتدبير الإلهي أوحاه جل جلاله إلى أم موسى (عليه السلام) وذلك الوحي جاء في روِّية و استقرار وثبات وهدوء ملحوظ ذلك من أسلوب وإيقاع الآيات الكريمات لأن هذا الهدوء مناسب لما كان حال أم موسى عليه من الفزع والخوف على ولدها والجزع من فراقه.
أما في سورة طه فهو حديث عن موسى (عليه السلام) ونعم الله عليه ولم يأت ذكر عن فرعون وبني اسرائيل لذلك لم نرَ فيه ذكر تعذيب فرعون لبني اسرائيل و لمّا كان من طبع موسى السرعة والعجلة المحمودين ولأنه لم يأت ذكر لحال أم موسى المشتمل على الخوف والفزع البليغين لذلك ناسب الكل أن تأتيَ الآيات بإيقاع سريع تنطق بأوامر سريعة العبارات عظيمة التأثيرات سواء إلى أم موسى أو إلى اليم أو إلى آل فرعون فالكون كله تحت يد الله الجليلة الكريمة, ولمّا كان الحديث عن سيدنا موسى (عليه السلام) كان من المناسب ذكر نعمة محبة الله ثم محبة الناس لموسى وإنه محفوظ بعين الله وعلمه وإحاطته به وكذلك من المناسب ذكر التابوت حيث عناية الله كانت به.