كان الوقت ما يزال ضحى تشير ساعة هاتفه إلى الحادية عشرة والنصف، والجو كان معتدلًا، والرياح الجنوبية تمخر سلسلة الجبال المتاخمة للنجد فتسكب نسمات باردة تخلق متعة استثنائية تضيفه إلى الصباح الصحراوي الشتوي الجميل، بينما تنتشر أشجار اللبان على مد البصر تتخللها بعض الاشجار الشوكية والصخور، وتحيطها كثبان رملية وكهوف صغيرة ومنحوتات صخرية تشبه الشفاه تشير إلى تأثير الرياح في تشكيلاتها.
تنفس بقوة بعد أن فتح باب سيارته، ثم أخرج زفرة نظفت مشاعره من تعب الطريق الذي قطعه من صلالة بمسافة خمسة وثلاثين كيلومترًا.
شكر الله الذي وضع قدر زيارة المكان في جدول يومه هذا تحديدا، كانت فكرة زيارة الوادي تراوده كثيرًا خاصة أثناء مروره عليه عندما كان يذهب إلى ثمريت قاصدًا مناطق النجد، لكنه كان يسوف مبررًا ذلك بأن المستقبل سيتسع لذلك، لكنه اليوم وبدون ترتيبٍ مسبقٍ قاد سيارته (اللاندكروزر) من صلالة إلى الوادي.
نزل من سيارته وارتدى ملابس المشي، واحتذى حذاءه الرياضي، وانطلق نازلًا إلى الوادي يتنفس هواء الحرية ويستمتع بالصمت والهدوء.
استقبلته خيمة كبيرة نصبت على أعمدة معدنية وتحتها توزعت صفوف مقاعد طويلة، يبدو أن الخيمة تعود إلى مناسبة أقيمت منذ سنوات يوم تم تدشين الوادي كمحمية لبان ضمن مواقع التراث العالمي، وصار وادي دوكة منذ تلك المناسبة يسحب كثيرًا من اهتمام الجهات التراثية والثقافية والسياحية من داخل سلطنة عمان ومن خارجها، وأصبح يحظى في الآونة الأخيرة باهتمام وتركيز، خاصة بعد أن تم الاتفاق بين وزارة التراث والسياحة وإحدى الشركات الاستثمارية يتيح الفرصة لتطوير الموقع وتكثير أعداد اشجار اللبان، وتحويلها إلى منتج استثماري وطني، ويجعل من المكان معلمًا ثقافيًا يستقطب الزيارات العلمية والسياحية ويلفت انتباه المختصين إلى الطريق التجاري الذي كان عامرًا بقوافل اللبان التي تنطلق بحرًا وبرًّا من مختلف الموانيء البحرية والصحراوية مرورًا بوادي نظور ثم دوكة، فالربع الخالي وصولًا إلى بلاد الرافدين والشام ومصر واليونان على اختلاف فترات التاريخ وتعاقب القرون. لم يشغله التاريخ بقدر ما استيقظ شغفه بالطبيعة والهدوء والصمت، تجول بين أشجار اللبان البرية العملاقة التي تبوح بعراقة المكان والألفة الممتعة بين هذه الشجرة المقدسة والأماكن التي تنبت فيها.
كاد التاريخ أن يوقظ في ذاكرته حملات الاسكندر المقدوني التي سيرها من الشمال لاحتلال منابت اللبان المقدس، لكنه ألجم التاريخ بالدخول في حالة تأمل، وبدأ يوجد ألفة مع الأشجار محاولًا أن يلتحم في وعيها الكوني الممتد في عوالم يختفي فيها الزمان ويتلاشى المكان، ويستقبل عقله ومضات من لمعات وعي تنقل وعيه إلى حوار ممتع وجميل يصل أحيانًا إلى مستوى التواصل العقلي الذي يردم الفجوة الكبيرة بين الأزمنة وما يميزها من وعي مطلق، وجد نفسه يتفيأ ظل شجرة لبان عجوز، شعر براحة كما لو أن تلك الشجرة تستقبله بالترحاب. استراح قليلًا بعد أن قطع مسافة 4.5 كيلو وأمعن النظر في أغصانها وفي زهرها الذي شد انتباهه وفي أوراقها الصغيرة والرائحة الزكية التي تخرج من بعض الجروح المتوزعة على سيقانها وعروقها. وقف متأملًا فاتحًا عقله وعاطفته وجميع حواسه الروحية مصغيًا إلى صمت ممتع، لم يشغل عقله بتحليله أو حتى بتفسيره أو تصنيفه، فقط يصغي إلى صمت عميق وممتع.


د. أحمد بن علي المعشني
رئيس أكاديمية النجاح للتنمية البشرية