.. فـ(العصابة) تستعمل في الخير، و(العصبة) في الشر في أغلب معناهما، حتى قال القرآن الكريم في سورة النور في حادثة الإفك، وتبرئة السيدة عائشة أم المؤمنين ـ رضي الله عنها: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النور ـ 11)، فاستعمل العصبة في وصف هؤلاء، ولم يستعمل العصابة.
فاستعمال اللفظة يَشِي بقوتهم، وواسع قدرتهم، ويبين في الوقت نفسه ضعف الطفلين، وحاجة أبيهما إلى ضمِّهما إلى صدره كثيرًا، والحنو عليهم، ثم تأتي العبارة الضخمة الكبيرة المؤكدة التي صرخوا بها عاليًا، ولم يستطيعوا كتمانها:(إن أبانا لفي ضلال مبين)، فهي جملة اسمية مؤكَّدة بمؤكِّدين، هما:(إن)، واللام المزحلقة؛ بيانًا لخطورة ما أضمروه، وما امتلأت به قلوبهم، فـ(إنَّ) تفيد عمق الدلالة في القلب، و(اللام) ترسِّخ لهذا المفهوم في الفؤاد، واستعمال حرف الجر(في) يفيد الظرفية، أي: أن أباهم قد انظرف في الضلال، فلا يراه الرائي، كقولك:(وضعت القلمَ، أو الكتابَ في الحقيبة)، فأنت لم تَعُدْ ترى الكتابَ؛ بسبب انظرافه فيه، فكأن أباهم قد غطَّاه الضلال، فلم يعد يراه الرائي، واستعمال المصدر:(ضلال) يفيد الثبات للحكم؛ لأنه اسم، كما أن التنكير فيه يبين سعة الضلال، وتنوعه، وشموله ـ في رأيهم، واستعمال اسم الفاعل المنكَّر كذلك:(مُبِينٍ) يدلُّ على أن الضلال مع تنوعه وتعدده، واتساع ألوانه قد أمسى يُبِينُ عن نفسه، فهو بليغٌ، فصيحٌ، يمكنه الإعلانُ عن نفسه على سبيل الاستعارة المكنية التشخيصية التي جعلتْ منه شخصًا لَبِقًا في مُكْنته البيانُ، والإفصاح، وجذب الأنظار من بلاغته، وكمال بيانه، وتنكير (مبين) يبين طلاقة البيان، ومدى كشفه عن حقيقة هذا الضلال الذي وصفوه به، فهو مصدر(اسم) يفيد الثبات، والاستمرار، كماأنه منكَّر يفيدُ الشيوع، والاتساع، وهو موصوف باسم فاعل منكَّر كذلك، فكيف يكون ما انطوى عليه قلبهم تجاه حبِّ أبيهم لصغيريْه؟!، وقيامه بواجب الأبوة في هذا الوضع الذي رسمه القرآن بكل صدق، ودقة؟!، وعَرَفْنَا من خلاله أصولَ التربية الأسرية، وقواعدَ قيام الأسرِ على النهج التربويِّ السليم، وأعطانا القرآن الكريم ـ من خلال آية واحدة ـكثيرًا من قواعد التربية الصحيحة، وطرائق النظر الأسري القويم، وقد تخلَّلَ الآيةَ عددٌ من الجمل الاسمية المؤكدة التي تُبيِّن تأكُّد الأبناء من أقوالهم، وامتلاء قلوبهم بها، ومنها استعمال لام الابتداء، وأفعل التفضيل، والجملة الحالية، وأسلوب التوكيد بـ(إن واللام المزحلقة)، ومجيء حرف الجر الخاص بالسياق الذي يفيد الظرفية:(في)، واستعمال المصادر المنكَّرة ذات المفاهيم الواسعة، والتي تفيد شيوعَ،وشمولَ ما تحتها من المعاني، كما استعمل المشتقُّ، وهو اسم يفيد الثبات، وهو منكَّر كذلك، يفيد شيوع الدلالة وعمومها، واتساع مفاهيمها، وتعدد مدلولها كما أرادوا نقله من دواخلهم.
إنها آية قصيرة، ذات كلمات قليلة، لكنها تضمَّنت معانيَ دقيقة، وتربويات كثيرة، وأصولا، وقواعدَ مهمةً للغاية في البناء الأسري المحكَم القويِّ؛ ومن ثَمَّ بناء مجتمع وطيد الأركان، قوي البنيان، نسأل الله تعالىأن يَمُنَّ على بيوتنا جميعًا بالهدوء، والاستقرار، والمحبة، والودِّ، والحَدَب ، وأن تكون الأسر على قلب رجل واحد، وأن نتعلَّم من القرآن الكريم، وآياته العظام هذا الكمال التام، والبناء الأسري الكريم، وأن يبصرنا بجمال لغة القرآن، وجلال مقاصدها، وصلى الله، وسلم، وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.


د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية
[email protected]