رغم أهمية “النشطاء” في زيادة الوعي العام بقضية ما، إلا أن الشطط يذهب بهم أحيانا للحياد عن الهدف، وغالبا ما يكون ذلك ضربا من “الحق الذي يراد به باطل” لأغراض سياسية. فمع أهمية الوعي البيئي في ظل حاجة العالم لمواجهة التغيرات المناخية التي تهدد الحياة على كوكب الأرض لا يعقل أن نطالب بحالة “فقر طاقة” تعطل النشاط الاقتصادي في العالم. تلك المغالاة التي صبغت احتجاجات بعض نشطاء البيئة والمناخ هذا الأسبوع مع إعلان المبعوث الإماراتي للمناخ ووزير الصناعة والتكنولوجيا المتقدمة الدكتور سلطان الجابر رئيسا لمؤتمر الأطراف للأمم المُتَّحدة حول المناخ (كوب 28) الذي تستضيفه دولة الإمارات في شهر نوفمبر القادم تشبه “حملات مواقع التواصل” المغرضة، أكثر منها عمل في صالح البيئة والمناخ.
فالتساؤل الذي يطرحه البعض في الغرب بشكل استنكاري حول أن رئيس مؤتمر “كوب 28” هو أيضا رئيس شركة النفط الكبرى أدنوك ليس منطقيا على عكس ما يبدو. وقد رد عليه بالفعل خبراء الطاقة والمناخ في الغرب استنادا إلى الحقائق وليس بادعاءات البطولة الزائفة لمن يسمون “ناشطين”. وعدد هؤلاء كيف أن مبعوث المناخ الإماراتي مشهود له في مجال الطاقة النظيفة قبل رئاسته أدنوك، وأنه مسؤول عن تطوير تقنيات توليد الطاقة المستدامة من مصادر غير ملوثة للبيئة.
أتذكر المرة الأولى التي عرفت فيها الدكتور سلطان الجابر قبل نحو عقدين كان يقود مشروع “مدينة مصدر” التابع لصندوق مبادلة الاستثماري في بدايته. ووقتها كتبت تقريرا لـ”بي بي سي” عن تجربة رائدة في الطاقة النظيفة تطلقها الإمارات، في وقت لم يكن فيه هؤلاء “النشطاء” يدركون خطر التلوث المناخي. تطورت “مصدر” تحت رئاسته حتى أصبحت لها مشروعات طاقة شمسية وغيرها في مختلف قارات العالم. كذلك تطور صندوق مبادلة من أصول ببضعة مليارات إلى أصول تقترب من ثلث تريليون دولار، ووسع استثماراته في مشروعات الطاقة المتجددة والمستدامة حول العالم.
أما الإشارة إلى أن النفط وقود عالي الانبعاثات الكربونية التي تسبب الاحتباس الحراري والتغيُّر المناخي، وكيف لمن مهمته التوسُّع في إنتاجه أن يكون مسؤولا عن وقف الانبعاثات الكربونية؟ فيجافيه المنطق. أولا لأن إنتاج النفط والغاز لا يمكن أن يتوقف حتى يصبح العالم قادرا على تلبية احتياجاته من الطاقة من مصادر منخفضة أو منعدمة الانبعاثات الكربونية. فمن غير المعقول وقف النشاط الاقتصادي العالمي حتى نحقق ذلك. ثم كيف يمكن تحقيق خفض الانبعاثات الكربونية ما لم تستثمر الدول المنتجة للنفط والغاز في مشروعات الطاقة النظيفة المستدامة وأيضا في تقنيات سحب الكربون من الغلاف الجوي. ولعل الإمارات رائدة في هذا السياق، حتى من قبل مطلع هذا القرن. أولا من خلال استثمار عائداتها من مبيعات الطاقة في تخريج أجيال قادرة على الابتكار من خلال الاهتمام بالدراسات التكنولوجية الحديثة في جامعاتها. وثانيا، من خلال الاستثمار في مصادر طاقة غير نفطية حتى أصبحت الآن رائدة خليجيا في توليد الكهرباء من محطات طاقة نووية.
يحتاج العالم، باعتراف رئيس وكالة الطاقة الدولية وغيره من مسؤولي الغرب، إلى استثمارات هائلة في النفط والغاز لتلبية الطلب العالمي على الطاقة في السنوات القادمة. ذلك جنبا إلى جنب مع الاستثمار في الطاقة النظيفة المتجددة حتى تزيد نسبة مساهمتها في المعروض العالمي. وذلك ما تفعله الإمارات، التي بدأت مبكرا الاستثمار في الطاقة الشمسية، ثم النووية وحاليا تنتج الهيدروجين الأخضر وتصدره إلى أوروبا. أتصور أنه ليس أفضل من الدكتور سلطان الجابر لتولي مهمة قيادة مفاوضات “كوب 28” لأنه يملك ناصية الأمرين: النفط والمناخ. ثم إنه معروف عنه أيضا لكل من عمل معه أنه “شخص ينجز”، أي قادر على تحقيق النتائج وليس فقط وضع الخطط والأهداف نظريا. الحقيقة أن الحملة المغرضة ممن يسمون “نشطاء المناخ” لا تختلف عن تلك الحملة التي تعرضت لها مصر العام الماضي مع استضافتها لمؤتمر “كوب 27” في شرم الشيخ. ولأغراض سياسية لا تخلو من تلفيق مقصود حاول هؤلاء في الغرب (ومعهم البعض في المنطقة) تشويه الصورة بشعارات لا علاقة لها بقضايا البيئة والمناخ. ولا أتصور أنهم سيحققون شيئا من “نشاطهم” الحالي أيضا.
كما يقول المثل الشَّعبي “اللي بيعمل ما بيقولش، واللي بيقول ما بيعملش”، فالعبرة ستكون بالنتائج. ولعل سجل الإمارات في الفعل أكثر من قول يبشر بأن مؤتمر المناخ القادم سيكون فرصة للإنجاز بعدما استهلك العالم وقتا طويلا في نقاشات حول الأهداف فيما يتعلق بالتغيُّر المناخي. تلك الجماعات من “الناشطين” لا تركز على النفاق الأوروبي المتمثل في عودة الدول الصناعية الكبرى لتوليد الطاقة من الفحم، وهو أكثر انبعاثا للكربون من النفط والغاز، متخلية بوضوح عن أهداف مكافحة التغيُّر المناخي. لكن استضافة مصر “كوب 27” العام الماضي، وما تحقق فيه للمرة الأولى من اتفاق على تعويض الدول النامية المتضرة من تلويث الدول الغنية للمناخ لا يعجب جماعات الضغط الغربية. والأرجح أن نجاح الإمارات خلال مؤتمر “كوب 28” القادم، بتحويل الأقوال إلى أفعال يزعج البعض ممن لا يمكن أن يكون هدف حماية البيئة والكوكب في مقدمة أولوياتهم.



د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري
[email protected]