في كتابها الرائد الموسوم (عبر طرق الصحاري إلى بغداد) By Desert Ways to Baghdad، أماطت المؤلفة البريطانية “لويزا جيب” Jebb، النقاب عن الطريقة الاستعلائية التي كان العقل البريطاني يعتمدها للتفكير بالشرق عامة، وبالعالمين العربي والإسلامي خلال العصر الذهبي للإمبراطورية.
وإذا كان الكتاب هو عبارة عن مذكرات “ارتحال” أصلًا، فإنه يكشف حقيقة بأن المؤلفة تعد لحظة تجاوزها حدود أوروبا إلى تركيا هي لحظة الخروج من “حديقة العالم” إلى الصحاري: لذا، ظهر عنوان الكتاب أعلاه مشحونًا بالمعاني. وبطبيعة الحال، فإن الأقوام التي تسكن الصحاري وتجوبها ليست من الأقوام “المدنية” المتحضرة، لأنها أقوام بدائية وبدوية.
وبذلك تقدم “جيب” نموذجًا صارخًا للميل الأوروبي إلى إطلاق الأحكام المعيارية المتسرعة، دون الحاجة إلى التمحيص والتأكد، ظنًّا بأنها مؤهلة لذلك..
من هذه الأحكام، يمكن للمرء أن يستذكر افتتان الرجال الشرقيين برفيقة رحلتها، المجهولة الهُوية والاسم، وذلك بسبب حجم جسدها الكبير، قائلةً: “في الشرق الحجم مهم جدًّا، لذا يميل الشرقيون إلى كل ما هو عملاق وكبير!”، وهو تعميم مخلٌّ، بل ومخالف لبعض آراء المستشرقين الذين لاحظوا اهتمام الأقوام الشرقية بـ”المنمنمات”، أي الأعمال الفنية الدقيقة الأحجام بمعنى (كل ما قلَّ وزنه، وغلا ثمنه).
أما إذا ما رافقنا “جيب” ورفيقة دربها نحو بغداد، فإننا لا بُدَّ أن نكتشف بأنهما لم يرتادا تركيا والعراق (على نهايات العصر العثماني) حبًّا بأرضهما وبأقوامهما، وإنما حبًّا بإرثهما الديني العبري/المسيحي، إذ يجد كتابها أعلاه ذروته لحظة وصول المرتحلتين آثار وبقايا مدينة بابل، جنوب بغداد، فتنقل هذه الآثار ضمائرهما إلى استذكار غضب الخالق على “جبروت” بابل وعلى تحدي أباطرتها للحدود التي خطَّها الرب لطموحات الإنسان، مهما بلغ من ثراء وقوة واعتداد. لذا، شكلت بقايا بابل المتصحرة نموذجًا لـ”خيلاء” وغرور الإنسان!
والحق، يمكن للمرء أن يلاحظ أن جيب إنما ابتكرت تعبير “أدب الصحراء” Literature of the Desert، لتشخيص عشرات المؤلفات والمصنفات التي جاد بها المرتحلون الأوروبيون، مستذكرين حياة الصحراء، أقوامها وطبيعتها وعادات سكانها.


أ.د. محمد الدعمي
كاتب وباحث أكاديمي عراقي