هذه هي الحقيقة التي تُثبتها شواهد التاريخ كُلَّ يوم، ولا يُمكن لأيِّ متابع أو قارئ مُنصف للتاريخ والأحداث أنْ ينكرها، ذلك أنَّ جميع المُستعمِرين طوال التاريخ قُدامَى كانوا أم جُددًا، صنَّفوا كُلَّ مَنْ يقاومهم ويدفع عن نَفْسِه ظلمهم وعدوانهم على أنَّه “مُخرِّب، وإرهابيٌّ، ومُجْرِم”. وعليه، لا يوجد اليوم قُطْر تعرَّض للاستعمار إلَّا وقد صَنَّفَ المُستعمِرُ مقاومة ذلك القُطر على أنَّها إرهاب وإجرام وتخريب يَجِبُ تدميرُه.
واللافت هنا أنَّ المُستعمِر أيًّا كانت جنسيَّته أميركيَّة أو بريطانيَّة أو فرنسيَّة أو صهيونيَّة أو... يتَّجه استعمارُه بداية إلى شيطنة الخصم المتمثِّل في النِّظام أو الحكومة وتسخير الآلة الإعلاميَّة في ذلك؛ بهدف تزييف الوعي وغَسْلِ أدمغة الرأي العامِّ وغرس صورة ذهنيَّة لدَيْه بأنَّ هذا النظام أو هذه الحكومة هما فعلًا كما تُصوِّرهما الآلة الإعلاميَّة للمُستعمِر. وحقيقةً، التاريخ القديم والحديث يكتظُّ بالشواهد على ذلك، فقد رأى الجميع في التاريخ الحديث ـ على سبيل المثال ـ حيثُ الذاكرةُ الجمعيَّة لا تزال محتفظةً بتفاصيل المشاهد المُهيِّئة للاستعمار، كيف أدَّت الآلةُ الإعلاميَّة للمُستعمِرين أدوارًا ضخمة في عمليَّة الشَّيطنة والتَّشويه، سواء كان في العراق، حيث تكفَّلت الآلةُ الإعلاميَّة الغربيَّة ـ الصهيونيَّة بعمليَّة تغييب الوعيِ وتشويهِ الحقائق ونقْلِ افتراءات قادةِ الاستعمار الأنجلوـ ساكسوني، وفي مقدِّمتهم توني بلير، وجورج بوش وديك تشيني ورامسفيلد وكونداليزا رايس وكولن باول، ليتكرَّر السيناريو ذاته في لبنان حيثُ شيطنةُ مقاومتِه الإسلاميَّة واتِّهامها بالسيطرة على الحكومة والتأثير على قراراتها، بجانب ما يُمثِّله سلاحُها المُوجَّه أساسًا للاحتلال الصهيوني ولحماية لبنان وأراضيه، ولِيكُونَ قوَّةً رديفة رادعة مع الجيش اللبنانيِّ، وكُلُّ ذلك لتبرير محاولة القضاء عليها وتجريدها من سلاحها الذي يرى فيه كيانُ الاحتلال الصهيونيِّ وحلفاؤه الاستراتيجيُّون وأتباعه وعملاؤه خطرًا وجوديًّا على هذا الكيان الغاصب.
ومع تفجير مُخطَّط التآمر على الدوَل العربيَّة عَبْرَ ما سُمِّيَ زُورًا “الربيع العربي” ازدادت عمليَّات الشَّيطنة والتَّشويه قوَّةً. ومن المؤسِف حقًّا ويَنْدَى له الجبينُ، أنْ دخل بعضُ الإعلام العربيِّ حليفًا وداعمًا للآلة الإعلاميَّة الغربيَّة الصهيونيَّة، الأمْرُ الذي ضاعف وتيرة غَسْل الأدمغة، وجرَفَ أبناء الوطن العربيِّ إلى متاهات التغريب والإساءة إلى الأوطان والتمرُّد عليها، وتشويه الحقائق والأخلاق والانحلال إلَّا من رحم الله منهم، فانطلت عليهم خديعة المُخطَّط التآمريِّ، وراحَ السَّوادُ الأعظم منقادًا دُونَ وعيٍ إلى ترديد ما تُلقِّنُه إيَّاه الآلةُ الإعلاميَّة الغربيَّة ومَنْ معها، وتنفيذ ما يطلبُه المتآمرون المُستعمِرون على النَّحْوِ الذي رآه الجميع في ليبيا وسوريا ومصر وغيرها من الدول التي أتى عليها مُخطَّط التآمر المُسمَّى افتراءً “الربيع العربي”.
ويزداد الأمْرُ وضوحًا أكثر عندما نقف عند الوضع الفلسطينيِّ، حيثُ نجد فصائل المقاومة الفلسطينيَّة التي وُلِدَتْ من رحم الاحتلال الصهيونيِّ، يُصنِّفها المحتلُّ الصهيونيُّ وحلفاؤه وعملاؤه على أنَّها فصائل إرهابيَّة، لِنَقفَ جميعًا على حقيقةٍ واحدة وهي أنَّ الشَّيطنة والتَّشويه والوصْمُ بالإرهاب والإجرام والتخريب هو أسلوب ثابت في السياسات الاستعماريَّة الغربيَّة القديمة والحديثة، ولا يقتصر تعميم هذا الأسلوب على إقليمنا حين يستهدفه المُستعمِرون، وإنَّما يتعدَّى إلى غير إقليمنا، كما هو الحال ـ على سبيل المثال ـ مع الجمهوريَّة الإسلاميَّة الإيرانيَّة التي لا تتساوق سياساتها واتِّجاهاتها مع السياسات الغربيَّة الاستعماريَّة.
لذلك لا غرو أنْ تطالعنا الولايات المُتَّحدة الأميركيَّة بقرارها تصنيف مجموعة “فاجنر” الروسيَّة، “منظَّمة إرهابيَّة دوليَّة”، بعدما قامت المجموعة بتحرير بلدة سوليدار، ودحرت الجيش الأوكرانيَّ منها، وتواصل تقدُّمها في الميدان لتحرير غيرها من المُدن والبلدات. وكذلك لِدَوْرِها في إفريقيا، وفي دعم المشير خليفة حفتر في ليبيا، حيث تمارس واشنطن حاليًّا ضغطًا كبيرًا عليه لإخراج منظَّمة “فاجنر” من ليبيا؛ نظرًا لِمَا تُمثِّله من تهديدٍ كبير للمصالح الأميركيَّة الغربيَّة القائمة على نهب ثروة النفط والغاز.
اللافت أيضًا في هذا السياق، أنَّه في الوقت الذي تُصنِّف فيه واشنطن منظَّمة “فاجنر” بأنَّها منظَّمة إرهابيَّة دوليَّة، تتناسى منظَّمتها المُسمَّاة “بلاك ووتر” التي لدَيْها تاريخٌ أسود من القتل والإرهاب في العراق، حيث يحتفظ الشَّعب العراقيُّ بتاريخ طويل من الإرهاب والترويع والقتل العمد من قِبَل مُرتزِقة هذه المنظَّمة التي لا تزال تمارس أدوارها في أكثر من مكان من هذا العالم. فلماذا لا تُصنَّف هذه المنظَّمة كما صُنِّف غيرها من المنظَّمات والفصائل؟
إذًا هذه هي حقيقة الغرب الاستعماريِّ، لا يُشيطنُ ولا يَصِفُ بالإرهاب والإجرام والتخريب إلَّا مَنْ يقف ضدَّ استعمارِه ومُخطَّطاته، ويعمل على منعه من نهب الثروات، وكُلَّ مَن يناضل ضدَّ الاحتلال الصهيونيِّ، ويقفُ موقفًا مشرِّفًا من القضيَّة الفلسطينيَّة ويدعم الشَّعب الفلسطينيَّ وفصائله المقاومة.


خميس بن حبيب التوبي
[email protected]