يقال إن للبيوت أسرارا، وتأمين هذا السر، مسؤولية أفراد الأسرة؛ لأنه تعبير عن خروج عن المألوف، وضرب بقِيَم الأسرة ومبادئها وضوابطها عرض الحائط، وحتى مع وجود الاختلافات الزوجية والأسرية ـ وما أكثرها ـ إلا أن مبادئ الأسرة تحول دون خروجها للعامة إذ السر إذا تجاوز اثنين فهو ذائع، بل كان من غير المستساغ عند الآباء أن يتوجهوا بالشكوى على أبنائهم أو أزواجهم أو أرحامهم في المحاكم، لذلك تجد روح التصالح ماثلة، ومساحة الود حتى مع التنازع قائمة، وهكذا استطاعت الأسرة أن تحافظ على وجودها وكيانها ومكانتها من أن يمسها لغط الحديث، أو يتناقل خبرها أصحاب النفوس المريضة.
لم تعد المسألة اليوم كما هي بالأمس، فلقد أفرزت بشاعة الأساليب وصخب الأنماط والفوضى الكلامية التي باتت تتعامل بها الأسر في محيطها الداخلي، أكبر من محاولة كتمانها أو إبعادها عن الأنظار بما لا يتخيله الفطن الحاذق، وأصعب من أن يتصوره العاقل المريب، زمن يحمل من الغوغائيات ما لا تتحمله الصدور، ومن المشاحنات والخلافات ما جعل مؤسسات القضاء والقانون تضج بأعداد القضايا الأسرية التي ترفع إليها، ولعل المشكلة كما يراها البعض ليس في رفع هذه الدعاوى فإن وجود هذه المؤسسات إنما جاء لتحقيق هذا الهدف ونشر العدالة والمحافظة على الحقوق ورعايتها، ولكن المقلق في الأمر هو نوع هذه الدعوى، والمحتوى أو الموضوع الذي تتناوله، والفئة المستهدفة منها، والطريقة التي يتم رفع الدعوى بها، فيغلق الحوار الزواجي والأسري والعائلي من البيوت ليتجه إلى المحاكم، حيث النزال والصراخ والاتهام بين الزوجين، أو الأخوة الأشقاء، أو الابن مع والديه، لتمتد خيوط النزاع ومساحات النزال بين الأعمام والأخوال والأقارب والأرحام والأهل ومن جمعتهم السنون تحت سقف واحد وأكملوا من مائدة واحدة فـ»إنا لله وإنا إليه راجعون».
ومع فارق المقارنة، يبدو أن تغير الناس، وتدخل الكثير من العوامل والظروف في حياة البشر، ووجود الكثير من المهيجات لهذه الصورة السلبية، والتي وجدت بيئة مواتية لاستثارتها بشكل متسارع يفوق فرص التفكير في الحلول، أو محاولة البحث عن مسارات أخرى وخيارات أوسع تعالج المشكلة، الأمر الذي يسرع من اتساع هذه الخلافات ويزيد من حالة الاحتقان، في وقت ضاعت فيه الثقة، وتلاشت فيه الحوارات، وغاب فيه الاحترام والتقدير، وانعدمت فيه مساحة قبول الأعذار، والتغاضي عن الهفوات، حتى أصبحت في ضعفها ووهنها كبيت العنكبوت غير قادرة على تجاوز الصدمات أو الخلوص من معكرات المزاج، في ظل حالة مستعصية من الاختلالات، ومساومات باتت تنتهك أسرار البيوت وخفاياها، لتظهر للعلن، وتبرز للعامة، لتجد هذه الإرهاصات في الواقع بيئة خصبة لنمو الأحقاد والكراهيات لتظل الأسر تعيش في دوامة التأثير، وفراغ الحكمة، وتسلط الأنا، وغياب الرشيد، وتسلق الأقزام من الرجال والنساء الذين يفسدون ولا يصلحون، يبعِّدون ولا يقرِّبون واقعا صعبا، في خلافات زوجية شديدة، ونزاعات عائلية طاحنة، خلافات على أبسط الأشياء وأحقرها ـ إن صحَّ التعبيرـ. فهذه أخت ترفع على أخواتها دعوى قضائية بحجة أنها تريد ابنتها التي أنجبتها من زوجها الأول وتسكن في بيت العائلة، لتعيش معها في زواجها الثاني، وهذا زوج يحتال على زوجته بإدخالها في جمعيات وهمية وشراء عقارات بحجة إشراكها فيه، لتدفع هي ضريبة الاحتيال، وآخر يتزوج أخرى للحصول على مالها فيدفع بها إلى الاقتراض من البنك بحجة بناء بيت ليكتبه باسمه ويطلقها بعد فترة لتتحمل هي مسؤولية سداد هذا الدَّين، ابن يشكو أباه الذي أنفق عليه وأعطاه من الفرص والمال والخيرات، بحجة أنه أراد أن يتصرف في بعض مال أبيه فمنعه، مع كامل قواه العقلية والجسمية ليتفق مع الأم بنسبة الجنون إليه. أبناء يلقون بتبعات أبنائهم على والديهم اللذين تجاوزا السبعين عاما في مأكلهم وملبسهم دون أن يقدموا لهم أي مشاركة في تحمُّل هذه التكاليف، زوج يستغل البطاقة البنكية لزوجته ويتصرف فيها كيفما شاء وعندما تطلبها منه إما يرفع صوته أو يهددها بالطلاق سعيا منه نحو منعها من أخذ بطاقتها البنكية ليحلو له التصرف فيها. مشكلات كثيرة، وتراكمات مستعصية، وأحداث يومية تقشعر منها الأبدان، وتتفطر من هولها الأنفس، خصام وشجار، ونزاع وصراخ، وسبٌّ وشتم، وضرب واعتداء، وصاية وسلطوية، سادية في السلوك وفردانية في التصرف. لعلَّ المتابع للقضايا والمرافعات في المحاكم بأنواعها التجارية، والشرعية، والمدنية، والجزائية والإيجارية وغيرها يدرك هذه الصورة القاتمة التي يبدو عليها الكثير من الأسر، وتضيع فيها كل استحقاقات الحياة في إنسانيتها وأخلاقياتها. مواقف وأحداث تبرز حجم التحوُّل السلبي الذي باتت تعيشه الكثير من الأسر العُمانية، والظروف الصعبة التي تتعايش فيها رغم تيسر الظروف الاقتصادية، غير أن القلوب قاسية، والصدور ضيقة، والأنفس متحاملة، والأمزجة متعكرة، والعقول متحجرة، أزمة في القِيَم، وانحدار في الأخلاق، وسقوط في درك الجهالة، وضياع للمشتركات، وانحراف في الفطرة، وكبر واستعلاء في النفس، وأثره في الشعور، وتصنّع في العلاقات، بيوت من ورق، وعلاقات تتهاوى لاختلاف بسيط، وتتلاشى مع تعارض في الأدوار، سوء تفاهم بين الأبناء ينقلب إلى عراك أسري، وتأجيج لكل أدوات الانتقام، وطرد من البيوت، ومنع الأطفال من اللعب مع أبناء أعمامهم أو عماتهم أو أخوالهم أو خالاتهم، تربص بالشر، واتهامات تطول الأعراض والشرف، وخرق صريح لمبادئ العلاقات الاجتماعية والأسرية وقِيَمها وأخلاقياتها، وتعبير سافر عن إفلاس في النفس، وعقم في التفكير، وقصور في تقدير الموقف الإنساني، وإخلال بموازين الاحترام والتقدير، وتمجيد لحالة الاغتراب التي تعيشها العلاقات الأسرية عندما تتحكم فيها الماديات ويتعاظم فيها دور السلطة القسرية، وتنعدم فيها روح المشاركة، وتبرز فيها الأكاذيب وتبرز خلالها حقيقة الأشخاص التي تفتقر للصدق وتتجاوز معيار الانتماء والمسؤولية.
لذلك لم تعد العلاقات الأسرية بتلك القوة والثبات الذي تتحمل خلاله مطبات الواقع اليومي وما تولده حالة التفاعلات من شجار أو نزاع أو خلاف أو اختلاف، حتى أصبحت من الوهن والضعف ما لم تعد تصمد أمام أبسط المواقف، وأدق التفاصيل، تتقاذفها الرياح البسيطة، وتؤثر عليها الكلمات العابرة، أو حتى سقطات اللسان أو الكلمات الارتجالية التي تبدو عليها صفو النيات، لذلك أصبحت في ظل الحساسية المفرطة غير قادرة على استيعاب الأحداث، أو حتى إغفال مواقف طفولية بريئة تحصل بين الإخوة وأبناء الأخوات والعمَّات وغيرهم، ليصطاد أصحاب النيات السيئة ـ من الكبار سواء الرجال والنساء ـ في الماء العكر، ويوظفها عديمو الضمائر لتبحر في طريق الأسرة حاملة معها الشوك، حتى أصبحت العلاقات الأسرية والاجتماعية تعاني من الترهل الفكري والنمطية في الأسلوب، وهشاشة أدوات الردع والتصحيح، وزيادة مساحات التنافر، وتراجع وانسحاب المبادرين بالإصلاح، فالكل مشغول بنفسه، ومن يعنيهم أمر العلاقات الاجتماعية لديهم ما يشغلهم عن أحداث الأسرة أو القيام بدواعي الإصلاح وجمع الكلمة، فالأسهل له أن يرمي القضية إلى المؤسسات المعنية، لتتجه إلى المحاكم والادعاء العام على أن يمنع وقوع الدعوى من أساسها بحسن تصرفه وتسامحه وسعيه نحو جمع الأسرة على كلمة واحدة يعيشون خلالها الحياة بكل تفاصيلها الحلوة والمرة تحت سقف المبادئ والأخلاق والصفاء والنقاء. لقد ابتعدت العلاقات الأسرية والاجتماعية عن الهدف وتجاوزت المسار، وارتطمت بمطبات جديدة ما كانت في الحسبان، أثرت سلبا على الثقة والتقدير والاحترام والشعور الجمعي. لقد أنتجت هذه الحالة من التصادم في المواقف أحداثا اجتماعية تتقطع لها القلوب ويندى لها الجبين، في ظل حالة التقزُّم في السلوك، والجفاء في التعامل، والقسوة في القلوب، والران الذي أحاط صدأه بالنفوس، والصد والهجران في التعامل، والتصرفات التي تحمل في ذاتها صور الاستفزاز والانتقام والحسد وممارسات الشعوذة والتطبيب للضرر، والتي باتت تنتشر بين أبناء الأسرة الواحدة.
وعليه، تطرح هذه الإرهاصات البينية التي يعيشها الكثير من الأسر العُمانية، والإفرازات السلبية التي باتت تترتب عليها على حياة الفرد والمجتمع، وانعكاساتها النفسية والعائلية الحاجة إلى تعزيز مسار التوازن والاعتدال في قراءة هذه التحوُّلات وما إذا كانت بفعل التقنية والفضاءات المفتوحة التي أذابت القِيَم والمبادئ والعفاف والحشمة في سعي نحو الشهرة، وخروج عن المألوف، ونشر الخصوصيات التي أذهبت ماء الحياة، أو قضايا التركات والميراث الذي باتت ترصد خلافات أسرية حادة نحوها، أو التراكمات الاجتماعية المرتبطة بالزواج، أو الطلاق، أو غيرها، لضمان الوصول إلى نقاط التقاء مشتركة، وإنتاج خيارات وبدائل تعمل على إعادة بناء روح التغيير في النفس، والتصحيح في السلوك، وصدق الإرادة في التخلي عن نكبات الماضي الأسري وتراكماته، وفتح صفحة جديدة في حياة الأسرة، تبني على الفرص الحالية مستقبل الإنسان، وتؤمن بأن التغيير حالة صحية ومسار القوة عندما يبدأ من الذات وتقف عليه النفس، لتصنع منه مدد السلام الداخلي عندما تكبر في مواجهة كل أشكال التغريب العائلي والعلاقات الأسرية وتفسيرها في إطار الماديات والنرجسيات، لإنتاج الصورة الإنسانية النموذجية في العلاقات الأسرية القائمة على الرحمة والتعاون، والحب والعطف والحنان، وتقدير الكبار واحترام الصغار، والمعاشرة بالمعروف وحس الاحتواء.



د.رجب بن علي العويسي
[email protected]