تُثْبِتُ الدراساتُ اللغوية الحديثة، والنظرياتُ اللسانيةُ، والنصية التي كثرتْ هذه الأيام شيئًا من إعجاز الكتاب الكريم، وكلَّ يوم تنشأ دراساتٌ ترسِخ، وتعمِّق من قضية الإعجاز اللغوي والدلالي، وتزيد المؤمن حبًّا للقرآن الكريم، وقربًا من لغته، وكمالها، وجمالها، وجلالها، حيث تكشف لنا عن إمكانات تلك اللغة التعبيرية الهائلة، ومخزونها الدلالي الكبير، وتُميط اللثامَ عن بعضٍ من بلاغتها، وفيضٍ من جمال بيانِها، وشذًى نعتبقه من شذاياها، وعطرًا ينبعث لنا من زواياها، وتبوحُ لنا بعطاء من عطاياها ، وهنا نتجاوز ذلك القولَ لنردفَه بجميل الفعل، وصادق التحليل، ونقيِّ البيان، فنأخذ سورةً من سور الكتاب العزيز، تُعَدُّ ثلثَ القرآن، بمعنى أنَّ مَنْ تلاها ثلاث مرات فقد نال ثوابَ تلاوة الكتاب العزيز كاملًا؛ لما بها من جلال التوحيد، وما تضمَّنته من أبجديات التصور العقدي السليم، ففيها حديث عن صفات ربنا العزيز الحميد، وجاءت بالأوصاف التي ارتضاها الله ـ جلَّ في علاه وتقدست أسماؤه وكملت آلاؤه وتُمِّمَتْ نعماؤه لنفسه ووصف بها ذاتَه العلية.
يقول الله تعالى:(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) (الإخلاص 1 ـ 4).
هذه السورة كلها عبارة عن جملة هي مقول القول الذي افْتُتِحَتْ به السورة الجليلة، وتتابعتْ فيها المعطوفاتُ التي تشكِّل في مجموعها مقولَ القول أو مَحْكِيَّهُ، فهي جملة في محل نصب مقول القول، أو هي مفعول القول، بدأتْ بفعل الأمر (قُلْ) الموجَّه لشخصه الشريف (صلى الله عليه وسلم)، ولأمَّته من ورائه، والقاف في:(قُلْ) حرفُ إطباق، عالي النبرة، قويُّ الصوت، مفخَّمه، فالمقولُ مُفَخَّمٌ يتناغم مع فعل القول، وحُذِفت عين الفعل:(قُلْ) لالتقاء الساكنين؛ لكونه أمرًا من الفعل الأجوف، واللام في الفعل (قُلْ) حرف يخرج من جوانب الفم، أيْ: أن القارئ معه يقرأ الفعل قراءة تملأ النفس، وترتوي منها الروح، وتخرج عاليةً من جوانبِ فمه كاملا، تعترفُ، وتقِرُّ، وتؤمن، وتعتقد بصدق، وعمق المقول الآتي بعدُ، وتعلِّمنا أن نعتزَّ بما بعدها، فنخرجه من حنايانا، ونفخر به من عمق طوايانا، ولا غرو في ذلك، فما بعد المقول وصْفُ ربِّنا فهو الواحد الأحد، المصمود إليه في جميع حوائجنا، والمفتقر إليه في كل لحظة من حياتنا، فلا أحدَ يمكنه العيشُ دون رحمة ربه، وسعة عطائه، وهو ـ جلَّ جلاله ـ لم يلدْ ـ حاشاه ـ ولم يولدْ ـ تعالى في علاه ـ وليس له كفوٌ، ولا شبيه، ولا مثيل، ولا نظير، وهو ـ في علاه ـ لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير، جَلَّتْ صفاته، صفاتُ الجلال منها، وصفاتُ الجمال، صفاتُ الربوبية، وصفاتُ الألوهية، إنها سورة كشفت لنا حقًّا عن طبيعة الصفات الربانية، وكمالها، وجلالها، وجمالها.



د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية
[email protected]