في المنتدى الاقتصادي العالمي بمنتجع دافوس بسويسرا قبل أيام ألمحت نائبة مديرة صندوق النقد الدولي إلى أن الصندوق سيعدل توقعاته لنُمو الاقتصاد العالمي بالإيجاب. وذلك بعد أسابيع قليلة من إعلان مديرة الصندوق أن الوضع الاقتصادي العالمي شديد القتامة، وأن الركود أكثر احتمالا في العام الحالي 2023. وقبل ذلك بوقت قليل، خفض الصندوق توقعاته للنٌّمو العالمي للمرة الرابعة في أقل من عام. خبراء الصندوق، مثل غيرهم من المحللين والاقتصاديين في المؤسسات الكبرى، يحاولون استباق أن تأتي التغيُّرات في الواقع عكس توقعاتهم كما حدث بالنسبة لمعدَّلات التضخم ما بعد أزمة وباء كورونا. والمشكلة فعلا أن البيانات المتفائلة في الآونة الأخيرة التي استند إليها الاقتصاديون والمحللون يمكن أن تتغير، وبقوة، فتأتي التطورات على الأرض عكس كل التوقعات المتغيرة.
ذكرت المقال الاقتصادي لأن التوقعات تتم فيه على أساس بيانات حقيقية ونماذج سيناريوهات أداء مجربة، وليس من باب التكهن كما في السياسة وغيرها. كما أن توقعات وتقديرات المحللين الاقتصاديين والماليين تبنى عليها استراتيجيات استثمار وخطط اقتصادية مستقبلية للشركات والحكومات. فهي إذن ليست فقط مهمة جدا للأعمال، وإنما تؤثر أيضًا في الحياة اليومية للناس العادية. وبالتالي فتكرار خطأ التوقعات لأغلبية المحللين تعطي الانطباع بأن عملهم أصبح أقرب للتنجيم منه للعلم والخبرة حتى يكاد ينطبق عليهم المثل الشهير «كذب المنجمون وإن صدقوا». فحتى لو كانت توقعات نفر قليل من الاقتصاديين والمحللين جاءت مطابقة لتطور الأوضاع الاقتصادية فيما بعد، فإن أغلبية المحللين فشلوا في التوقع. هذا كما أشرنا بالنسبة للاقتصاد وأعمال المال التي يعد التوقع والتقدير أساسيا في مسارها.
فإذا كان الأمر كذلك بالنسبة للاقتصاد، فلا عجب إذًا أن تفشل التوقعات والتقديرات في السياسة. والحقيقة أنه في السياسة لا يمكن لمن يريد أن ينجح أن يبني قراراته على أساس سيناريو واحد محتمل بل في الأغلب يضع عدة سيناريوهات، تكاد تكون متناقضة أحيانا، ويضع سياسته على أساس التعامل مع أي منها تأتي به الأحداث والوقائع. وطبيعي أن تشهد السنوات الأخيرة فشل التوقعات السياسية، حتى منها ما كان يظن أنه يتم بشكلٍ مهني وعلى أُسس إحصاء وتحليل علمية مثل استطلاعات الرأي واستبانات المسوح وغيرها. فمنذ نحو عقد من الزمن، نجد استطلاعات الرأي فشلت في توقع تصويت البريطانيين لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي (بريكست) عام 2016 وفي العام نفسه فشلت في توقع فوز الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة. والأمثلة عديدة، ولا تقتصر على الأحداث والمناسبات الرئيسية وإنما امتدت التوقعات التي خالفتها النتائج على الأرض إلى انتخابات محلية هنا وهناك وتقديرات معدلات التصويت والإقبال على الاقتراع... إلخ. وبعيدا عن استطلاعات الرأي للانتخابات، يصعب إحصاء عدد المرات التي خابت فيها توقعات المحللين بالنسبة لتطورات سياسية هنا وهناك.
المثير فعلا، أنه في غير السياسة والاقتصاد نجد التوقعات تخيب أكثر في أكثر في السنوات الأخيرة. ولعل آخر ما يمكن تحصيله، هو أن يخطئ محللو الأرصاد الجوية في توقعات الطقس. صحيح أن بعض الأخطاء وقعت من قبل، لكنها كانت في حالات نادرة ونتيجة عوامل طبيعية مفاجئة جدا. أما أن يتكرر خطأ الأرصاد كما حدث في بريطانيا مثلا في الأيام القليلة الماضية فذلك يجعل الناس توشك أن تفقد الثقة في كل التوقعات والتقديرات، حتى تلك التي تعتمد أدوات عملية وقواعد تحليل مجربة. طبعا هناك تبرير دائما بأن «شيئا ما حدث»، مثل أن الرياح التي كان يفترض أن دفع الموجة الباردة إلى المحيط غيرت اتجاهها في اللحظة الأخيرة أو أن المنخفض الجوي القادم من هذا الاتجاه أو ذاك لم يعد «منخفضا» لدى اقترابه من اليابسة التي أعلنت الأرصاد توقعات طقسها. بل ويمكن القول إن التغيُّرات المناخية الناجمة عن تلوُّث الغلاف الجوي، وما أدَّت إليه من اختلاف الطقس عما هو معتاد بدرجات كبيرة، تؤدي دورا في فشل التوقعات والتنبؤات بأحوال الجو.
لكن، مرة أخرى، فإن كل تلك التغيُّرات المناخية المتوقعة تؤخذ في الاعتبار عند التحليل العملي لبيانات الرياح ودرجات الحرارة ومعدَّلات الضغط الجوي وغيرها وتضاف كمدخل في نماذج التحليل والتوقع. ومع التسليم بأن التغيُّرات المناخية، غير المتوقعة، هي السبب في أخطاء محللي الأرصاد الجوية، فماذا عن السياسة والاقتصاد؟ هل يشهد العالم «تلوُّثا» أيضًا في غلافه السياسي والاقتصادي يؤدي إلى تغيُّرات جذرية لا يمكن التنبؤ بها؟ أم هل بلغ العالم من الركون إلى القواعد التقليدية مبلغا جعله عرضة لعدم مواكبة التغيُّرات؟ من الصعب الإجابة على تلك الأسئلة، وغيرها الكثير، بطريقة مبسطة من قبيل نعم أو لا، ولا حتى بشكلٍ وافٍ يسبر غورها تماما. ولنتخيل أنه في حالة العلوم الطبيعية، مثل الطقس الذي يتضمن حركة الرياح ودرجات الحرارة والضغط ومنسوب مياه البحر وغيرها، لم يعد التحليل موثوقا تماما بل تزيد أخطاؤه. فما بالك بالعلوم الإنسانية التي هي في مجملها أصلا نسبية جدا ولا تنطبق عليها معايير علمية دقيقة وصارمة. بالطبع سنظل نتابع توقعات وتقديرات المحللين، لكن التجارب الأخيرة تعني أن نأخذ ذلك بأعلى قدر من الحذر والحيطة.



د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري
[email protected]