ما أجمل التاريخ حين تكون شاهدًا على جزء كبير من مجرياته فتحك الذاكرة لتجدها مملوءة بأحداث تمرُّ بخاطرك، تحكي ذكرياتك، فتسبح مع الوجود ليعلو وجهك الاندهاش الممزوج بابتسامة الرضا عن ما شاهدته وما حفر في وجدانك، وأثَّر في علامات وجهك، وتقاسيم الزمن تحفر أركانا كثيرة كلما تخطو إليها تجد أنفاسك تتسابق لتتابع الخطى وأنت تمشي ملكا في بلاطها. هذا هو انطباعي الأول حين أصحو بذكرياتي التي عايشت أكثرها فاعلًا وشاهدًا، أما ما لم أشاهده عن قرب فقد كان حديثا يروى كأحاديث المساء والسهرة عن هذا الكيان، الذي أضاء دروب المعرفة، أنار عقولا متعطشة، رسم بيانات متصاعدة لانطلاقة (وطن) عايش الوطن، نعم إنه يوم الثامن والعشرين من يناير من كل عام والذي نحتفل فيه مع صاحبة المقام الرفيع جريدة (الوطن) التي بدأ مشوارها من العام 1971، وهي تحمل مرجعية المسؤولية، فكان اختيار اسمها معبرًا عن الولاء والانتماء لوطننا الغالي سلطنة عُمان، فوضعت في اعتبارها طريقا نصفه أشواك والنصف الآخر حرير، نابعا من مسؤوليتها الإعلامية والمجتمعية، المنحوتة بمرجعية الولاء والانتماء، فكانت وما زالت قناة تنويرية تعكس في البداية تلاحم الشعب والمجتمع مع النهضة المباركة، ثم تتوالى سطورها وأوراقها لتعاصر هذا التلاحم من النهضة، وتجددها فكانت تدون وتذيع للعالم كله الجهود الرشيدة لإرساء وبناء قواعد المجد.
اليوم تتم صاحبة السعادة (الوطن) شبابها بالعام الثالث والخمسين؛ أي أن هذا الصرح الكبير له من المسير أكثر من نصف قرن، يحمل على عاتقه الريادة المحلية. ولن أبالغ إذا قلت وأؤكد أنها أيضًا ريادة عربية بامتياز، بعد أن اتخذت لنفسها طريق العروبة والدِّين بتحملها قضايا الوطن العربي، وإفرادها لذلك صفحات وصفحات لتدافع عن القضايا العربية والإنسانية التي لم تحِدْ عنها طوال أكثر من نصف قرن، ولم تتغير وجهتها أو ألوانها حسب أهواء أو مصالح، بل كانت تحمل الضمير الوطني والعربي لا يهمها ما تقابله من أعاصير أو رياح فقط هدفها الرسالة التي تحمل مضمونها وتعبِّر به عن اسمها وهو (الوطن). وبفضل هذا كله ولتميز بصيرتها التنويرية أصبحت أهم المصادر الوطنية الموثوق في مصداقيتها، وأبرز قنوات الوعي الشعبي والمجتمعي التي نشأت على الحقيقة وتحرِّي الدقة، وارتكزت على صرح ضخم من القِيَم الإنسانية والمفردات الصحفية والإعلامية، بفضل إيمانها بالحقبة التاريخية لدور الوطن (سلطنة عمان) كقلب نابض للأمة العربية، فكانت عنوانا لنشأة النهضة في بلادنا المباركة.
كل هذه المفردات جعلت من «الوطن» خلال تاريخها المهني الأولى جماهيريا في استطلاعات الرأي وأكاديميا في أبحاث الشركات المتخصصة، هذا خلافا عن كونها أول وأقدم صحيفة في السلطنة صدرت عام 1971، وأول صحيفة تطلق موقعا إلكترونيا عام 1997، وفي عام 1999 أصبحت أول جريدة تغيِّر طباعتها إلى ورق مصقول لامع، كما أنها أول جريدة يومية تتولى القضية الفلسطينية في رسالتها الإعلامية، وأول جريدة تنشر التقرير اليومي لسوق مسقط.
ولم تقف الإدارة الواعية لهذا الصرح الإعلامي الضخم أمام التحدِّيات التي تواجه الصحف الورقية موقف المتفرج وتفضيل المصلحة الشخصية بالابتعاد عن خسائر هذه المرحلة من الصحف الورقية، بل آمنت بأن رسالتها أعظم من كل الأموال والخسائر؛ لأن رسالتها ليست رسالة فردية بل هي رسالة مجتمعية ورسالة وطن يجب أن تصل لكل العقول حتى لا تتيه في مفاسد الأكاذيب، فآثرت إدارتها الواعية ممثلة في المدير العام ـ رئيس التحرير على تحمُّل الخسائر؛ كي تكون حائط الصد المنيع لعقول المتابعين بنقل الحقيقة مجردة من أي تزييف، وما زالت تواجه التقلبات الاقتصادية التي عصفت بكبريات أخرى من الصحف إيمانا بأهمية دورها على المستوى المحلي والإقليمي لتبقى في أول الصفوف لتظل بدورها التنويري شمسا يسطع نورها كل صباح. فحق لي كشاهد عيان أن أقول إنها أكثر صحف العالم كفاحا لإثبات وجودها وضمان استمراريتها، ولم يكن هذا التحدي وليد اليوم وفقط، بل شهدت بدايتها نفس التحدي حين كانت تجول بأخبارها وأوراقها على 3 عواصم من أجل الطباعة هي بيروت والقاهرة والكويت، لتنقل للعالم نهضة عُمان وتصل لقارئها في مكتبه أو منزله أو مكان شراء الصحيفة لتتحمل إدارتها العناء حتى تم إنشاء مطبعة خاصة بالجريدة في العذيبة بولاية بوشر لتتوالى بعد ذلك مع مرور السنين التطورات التي تصاحب أدوات الطباعة والتي يتوالى معها ضخ أموال من أجل التحديث.. هذه شهادتي الموجزة عن هذا الصرح العظيم وراعيه وكل موظفيه، فكل عام وأنتم وأنا ونحن شاهدون على استمرار وتميز معشوقتي (الوطن).



جودة مرسي
[email protected]
من أسرة تحرير «الوطن»