تناولت التشريعات والقوانين، والإجراءات الإدارية بالمؤسسات موضوع الهُويَّة بشكلٍ مفصَّل من حيث كونها مبادئ وأخلاقًا وقِيَمًا وسلوكًا يؤسِّس للوعي، ويتجه إلى الوحدة الوطنية وصون المكتسبات، وحماية المنجزات والتثمير فيها، وإعادة إنتاجها بما يتناسب والظروف المحيطة والمستجدات التي يعيشها مجتمع سلطنة عُمان في مختلف المجالات. فهي لغة جامعة مشتركة بين أطياف المجتمع العُماني، ورابطة وطنية تتمحور حولها السياسات الاقتصادية والاستثمارية والاجتماعية والثقافية والفكرية والأمنية والتعليمية، كما تضعها السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية كمحرك أساسي يوجِّه بوصلة عملها ويجسِّد جودة أدائها وطريقها للمنافسة وبلوغ الأهداف الوطنية؛ فإن استقراء الإطار التشريعي للهُويَّة العُمانية، يضعنا أمام صورة مكبرة تبرز العمق التشريعي للهُويَّة العُمانية، والذي كان له أثره في تأكيد مسار الاستدامة والتنوع والتفعيل والضبطية التي حافظت على الهُويَّة العُمانية في سلوك المواطن رغم التحوُّلات الاقتصادية والاجتماعية، باعتبارها جزءًا أصيلًا من مكوِّناته الفكرية والنفسية والأدائية والوطنية ومساحة أمان واحتواء له في مواجهة ثورة الواقع.
وعليه، يمكن تناول الموضوع من خلال أربعة أبعاد رئيسية هي كالآتي:
1- البُعد المفاهيمي، والذي يُعبِّر عن مساحة الاتساع والشمول والتنوع والعمق في مفهوم الهُويَّة الوطنية العُمانية وطريقة ورودها في المكوِّن التشريعي. فقد أبرز النظام الأساسي للدولة الصادر بالمرسوم السُّلطاني رقم (6/2021)، مفهوم الهُويَّة بشكل صريح، حيث جاء في المبادئ الثقافية المادة (16): «التعليم حق لكل مواطن، هدفه بناء الشخصية العُمانية، والحفاظ على الهُويَّة الوطنية...». ومع الإشارة الصريحة للهُويَّة في المادة (16) المبادئ الثقافية، إلا أنها وردت أيضا بصورة ضمنية، عبر جملة من المفردات المعبِّرة عن الهُويَّة العُمانية والدلالات التي تحملها، والتي توسع النظام الأساسي للدولة في التعبير عنها في مبادئه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، ففي المادة (١٣) المبادئ السياسية للدولة، «إرساء دعائم شورى صحيحة نابعة من الشريعة الإسلامية وتراث الوطن وقِيَمه، معتزة بتاريخه، آخذة بالمفيد من أساليب العصر وأدواته؛ وفي المادة (١٤) المبادئ الاقتصادية للدولة»، «تكفل الدولة حرية النشاط الاقتصادي على أساس العدالة الاجتماعية، والتعاون والتوازن بين النشاطين العام والخاص؛ لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وزيادة الإنتاج، وتحقيق الرخاء للمواطنين، ورفع مستوى معيشتهم، وتوفير فرص العمل لهم، والقضاء على الفقر، وذلك على النحو الذي يبينه القانون». وفي المادة (١٥) المبادئ الاجتماعية للدولة «العدل والمساواة وتكافؤ الفرص بين المواطنين دعامات للمجتمع، تكفلها الدولة»، وكذلك «التعاضد والتراحم صلة وثقى بين المواطنين، وتعزيز الوحدة الوطنية واجب، وتمنع الدولة كل ما يؤدي إلى الفرقة، أو الفتنة، أو المساس بالوحدة الوطنية»، كما ورد في المادة (١٧) المبادئ الأمنية للدولة «السلام هدف الدولة، وسلامة الوطن أمانة في عنق كل مواطن». كما يظهر استيعاب الهُويَّة العُمانية وإدماجها في عمل كل السلطات القضائية والتشريعية والتنفيذية، حيث جاء في المادة (٨٠) من النظام الأساسي للدولة (6/2021) «جلسات المحاكم علنية، إلا إذا قررت المحكمة جعلها سرية؛ مراعاة للنظام العام أو الآداب، وفي جميع الأحوال يكون النطق بالحكم في جلسة علنية، وجاء في اختصاصات ومهام مجلس الدولة في المادة (53) من قانون مجلس عُمان الصادر بالمرسوم السُّلطاني رقم (7/2021) ما نَصُّه: «بالإضافة إلى اختصاصاته الأخرى المنصوص عليها في هذا القانون، يجوز لمجلس الدولة ـ من تلقاء نفسه ـ دراسة ومناقشة الموضوعات المتصلة بتنفيذ الخطط التنموية وتقديم مقترحاته بشأنها إلى الحكومة، كما يجوز له تقديم المقترحات والدراسات التي تسهم في ترسيخ القِيَم الأصيلة للمجتمع العُماني والمحافظة على منجزاته».
2- البُعد السلوكي الممارس، والمتعلق بكون الهُويَّة العُمانية نهجًا تفاعليًّا يجسِّد أبجديات الحياة اليومية للمواطن، فهي ليست حالة مجردة أو منفصلة عن الأفكار والمشاعر والرغبات والقناعات، لذلك جاء التشريع ليحافظ على الهُويَّة من العبث ومن أي ظواهر سلبية قد تجرّ الإنسان إلى الانحراف الفكري والارتداد النفسي. ولم تكن الهُويَّة العُمانية منفصلة عن العالم الافتراضي والعوالم التي بات يتسع الحديث عنها بقدر ما جاءت التشريعات لتأطيرها وتقنينها وضبطها وإعادة إنتاجها بشكل يحافظ على كفاءة الهُويَّة العُمانية وتنافسيتها وعدم تأثرها بما يتم طرحه في هذه المنصَّات، والعوالم الافتراضية، وانعكاسات ذلك على الهُويَّة العُمانية بات اليوم يتجاوز حدود الزمان والمكان والأشخاص والفئات، إلى اختلال مساحة التوازنات في المنظومات الاجتماعية والأسرية التي يجب أن تكون حاضرة في مواجهة التحدِّيات، فإن ما يحصل من تحدِّيات فكرية وتقنية وما أفصحت عنه منصَّات التواصل الاجتماعي من الاستغلال السلبي لها من البعض في التنمر الفكري والسياسي أو الإساءة والإعابة أو التشهير، وما يتعلق بالخصوصيات والابتزاز الإلكتروني وجرائم تقنية المعلومات والإشاعة، والإعلانات التجارية ومشاهير المنصَّات الاجتماعية و»السوشيال ميديا» وغيرها التي تعكس الهُويَّة فيها مستوى الاعتدال الفكري والتعايش المعرفي ومحطة لإعادة إنتاج المحتوى الرقمي المتداول وتطويره، وخلق بيئة تقنية تستوعب هذه التباينات والتناقضات والممارسات وتعيد إنتاجها بطريقة مهنية وتحويل هذه المنصَّات إلى فرص متجددة للتعبير عن الذات وفق القانون، وهو ما يعبِّر عنه قانون الجزاء العُماني الصادر بالمرسوم السُّلطاني (7/2018)، والمرسوم السُّلطاني رقم (68/2022) بتعديل بعض أحكام قانون الجزاء، وقانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم (12/2011). وفي المقابل كانت الحاجة إلى نقل الهُويَّة إلى مرحلة القوة باعتبارها محطة تنافسية للذوق الرفيع والمشاعر الإنسانية الراقية والسلوك الحسن الذي تضيفه في أخلاق الإنسان، سواء في وقت الأزمات والظروف لتعبِّر عن حالة التلاحم والتضامن والتكامل والتعاون في مواجهة الأزمات والحالات الطارئة، أو في مساحة المرونة والتجدد والاستيعاب، والتكيف مع المنتج المعرفي والأحداث والمواقف اليومية، حيث ورد في الباب السابع من قانون الجزاء العُماني وتحت العنوان (الجرائم المخلة بالآداب العامة) العديد من المواد (292 و293 و294) التي يمكن أن نستقرئ منها أحكاما عامة في الذوق العام. كما أصدرت وزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار جملة من الإجراءات ذات الصلة بالحفاظ على الهُويَّة العُمانية، مثل القرار الوزاري رقم (104/2004) المواصفة القياسية العُمانية الخاصة بالحلوى، والقرار الوزاري رقم (270/2015) بشأن حظر استيراد بعض المنتجات، حيث جاء في المادة (3): يحظر استيراد أو تصميم الملابس العُمانية التقليدية أو المساس بها أو إجراء أي تعديلات عليها تسيء إلى الهُويَّة العُمانية، والقرار الوزاري رقم (195/2017) باعتبار المواصفة القياسية الخاصة بالخنجر العُماني المرفقة مواصفة قياسية عُمانية ملزمة.
3- البُعد الجزائي والضبطي، لم تكن الهُويَّة العُمانية لوائح وتشريعات مجردة يصبح التنازل عنها أو العمل بها حرية شخصية ترتبط بمزاجيات الأفراد، واختيار السلوك الذي يتناسب مع رغباتهم، بل ثوابت والتزامات يكافئ القانون على تطبيقها ويعاقب على عدم الالتزام بها، إذ يحمل في موقع وروده بالنص التشريعي جزاءات وعقوبات والتزامات، لتمارس الهُويَّة دورها الضبطي للمجتمع، حافظة لقواعد العمل الوطني من أن تتلاعب بها النفوس أو تمتدَّ إليها يد التخريب؛ كونها منظومة تشريعية ضابطة لكل التصرفات والممارسات التي تمارس من قبل الفرد، والتي عالجها المشرع من خلال النظام الأساسي للدولة (6/2021)، وقانون الجزاء العُماني (7/2018)، وقانون إقامة الأجانب الصادر بالمرسوم السُّلطاني رقم (16/95)، والقرار(234/2021) بتعديل بعض أحكام اللائحة التنفيذية لقانون إقامة الأجانب، وقانون السياحة الصادر بالمرسوم السُّلطاني رقم (33/2002) وغيرها.
4- البُعد المستقبلي واستشراف اقتصاد الهُويَّة والتراث الواعد، حيث جعلت رؤية عُمان 2040 في محاور عملها القِيَم والهُويَّة العُمانية مبادئ أصيلة، وإجراءات ثابتة لتعزيز كفاءة الاقتصاد الوطني واستدامته، وترسيخ نُظم الحوكمة والحماية الاجتماعية في مواجهة الظروف والتحدِّيات الاقتصادية، ورافقت الثوابت العُمانية جهود الحكومة في إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة، لتصبح منظومة متكاملة، محكمة النسيج، مترابطة الحلقات، لا تتغير بتغيُّر الأزمان، بل تتجاوب مع المتغيرات العالمية والمؤثرات الداخلية والخارجية من دون أن تفقد جوهرها وأصالتها ومشروعيتها، متفاعلة مع التحوُّلات التي تطرأ على حياة الإنسان في غير ما انصياع للواقع، وإنما بالتكيف مع متطلباته لتوجيهه نحو أفضل الممارسات الحياتية. لذلك أصبح إدماج القِيَم العُمانية والهُويَّة في الاقتصاد، وتعزيز اقتصاد القِيَم والهُويَّة والعادات والتقاليد والثقافة والتراث إحدى أهمِّ أولويات جلالة السُّلطان هيثم بن طارق المعظم في تثبيت نظام اقتصادي مرن ومتوازن ومستدام، في ظل القناعة بما تُمثِّله القِيَم من دور حضاري معاصر في صناعة الاقتصاد العالمي، وقيمة مضافة في اقتصاد المعرفة الواعد. وقد أهاب جلالة السُّلطان بأبناء عُمان وبناتها التمسك بالمبادئ والقِيَم الأصيلة، التي كانت وستظل ركائز تاريخ عُمان الماجد ونهضتها السامقة.


د.رجب بن علي العويسي
[email protected]