المزايدة الإسرائيليَّة على الدَّم الفلسطينيِّ ليست وليدة اليوم أو اللحظة، وإنَّما باتت أحَدَ الثوابت في سياسة كيان الاحتلال الإسرائيليِّ، حيث غَدَا التنافس على حصاد أكبر كميَّة من الدَّم الفلسطينيِّ المسفوك غدرًا واغتيالًا وإرهابًا الورقة الرابحة للوصول إلى رئاسة حكومة الاحتلال، الأمْرُ الذي يؤكِّد بما لا يدع مجالًا للشَّك أنَّه لا يوجد ما يُسمَّى «يسار ووسط ويمين» داخل كيان الاحتلال الإسرائيليِّ، بل يوجد تطرُّف وإرهاب ونزعة عارمة إلى القتل والإرهاب والتدمير والحروب وإثارة الفتن، وهو ما يدلُّ دلالة قاطعة ويقطع الطريق على كُلِّ منادٍ بالسَّلام أو بما يُسمَّى التطبيع أو غير ذلك من المسمَّيات أو الشّعارات، ويحاول تبرير موقفه المائع أو المُتماهي مع سياسات كيان الاحتلال الإسرائيلي وممارساته القمعيَّة وجرائم حربه.
لذلك لا توجد منطقة رماديَّة، إمَّا إرهاب إسرائيليُّ وتطرُّف وقتل وهدم وتدمير ونهب الثروات واغتصاب الأرض وسائر الحقوق وتدنيس المُقدَّسات، ورفض الاعتراف بحقوق الشَّعب الفلسطينيِّ، والدَّوس بالأحذية على قرارات الشرعيَّة الدوليَّة وعلى القانون الدوليِّ، وإمَّا رغبة حقيقيَّة إسرائيليَّة ـ غربيَّة في إقامة سلام دائم وشامل، واعتراف بحقوق الشَّعب الفلسطينيِّ في إقامة دولته الفلسطينيَّة المستقلَّة ذات السِّيادة وعاصمتها القدس، واحترام المُقدَّسات الإسلاميَّة، واعتراف بحقوق الشعوب العربيَّة ودوَل الإقليم في الاستقرار والأمن والتنمية وعلاقات طيِّبة قائمة الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة.
وعليه، ومنذ ما يزيد على أربعة وسبعين عامًا من الصراع العربيِّ ـ الفلسطينيِّ لا يُمكِنُ القَبول بالأسطوانة الإسرائيليَّة المشروخة بأنَّ الظروف غير مواتية للحلِّ السِّلمي، أو التذرُّع بعدَم وجود شريك فلسطينيٍّ وغير ذلك من الافتراءات والأكاذيب. ولا يُمكِنُ بأيِّ حالٍ من الأحوال التسليم بالروايات الغربيَّة وفي مقدِّمتها الأميركيَّة، والارتكان إلى حبَّات التخدير والأقراص المسكِّنة من قبيل «خريطة الطريق» و»حلِّ الدولتين» وغيرهما مما سبق من مؤتمرات ومبادرات نَحْوَ مؤتمر «واي ريفر» ومؤتمر «أنابوليس» و...إلخ.
لذلك، إنَّ ما يجري على الأرض الفلسطينيَّة وما تُبديه الولايات المُتَّحدة الأميركيَّة ومعها بقيَّة الأطراف الحليفة استراتيجيًّا مع كيان الاحتلال الإسرائيليِّ من مواقف ومبادرات وجولات مكوكيَّة لمسؤوليها، وما تُطلقه من تصريحات تُوحي برغبةٍ أميركيَّة ـ غربيَّة في حلحلة مِلفِّ الصراع العربيِّ ـ الفلسطينيِّ، والاعتراف بالحدِّ الأدنى من حقوق الشَّعب الفلسطينيِّ، كُلَّ ذلك لا يخرج عن إدارة الصراع التي انتهجتها واشنطن باتِّفاق وانسجام تامَّيْنِ مع حليفتها الاستراتيجيَّة وقاعدتها والغرب العسكريَّة المُسمَّاة «إسرائيل» لتمكينِ هذه القاعدة العسكريَّة من التوسُّع في الإقليم وبسطِ هيمنتها على كُلِّ أقطاره تحقيقًا لأهداف دينيَّة واستعماريَّة مشتركة. وبناءً عليه، كُلُّ مَنْ يحاول أنْ يتماهى مع السياسات والتوجُّهات الصهيوـ أميركيَّة مُتوهِّمًا التوصل إلى سلام حقيقيٍّ دائم وشامل في الإقليم، إنَّما هو يخدع نَفْسه، أو هو في الحقيقة تابعٌ ومُنفِّذ لِمَا يُملَى عليه.
والمجزرة الأخيرة في مخيَّم جنين، التي راح ضحيَّتها ما يزيد على خمسة وثلاثين فلسطينيًّا بَيْنَ شهيد وجريح، ليست الأولى كما أنَّها لَنْ تكُونَ الأخيرة، بَلْ هي تؤكِّد حقيقة كيان الاحتلال الإسرائيليِّ وتُعرِّي مواقف وسياسات حلفائه الغربيين وفي مقدِّمتهم الولايات المُتَّحدة الأميركيَّة، وتفضح المُتماهين والمُتعاونين مع هذا الكيان الغاصب. وعليه، العمليَّة البطوليَّة التي نفَّذها الشَّاب المَقدسيُّ علقم خيري (21 عامًا) في شمال القدس المحتلَّة هي الردُّ الطبيعيُّ على المجزرة، وهي العمل المُقاوِم الذي لا يملك الشَّعب الفلسطينيُّ غيره لِيدْفعَ عن ذاته الإرهاب الإسرائيليَّ وجرائم الحرب الإسرائيليَّة في ظلِّ التواطؤ الغربيِّ ـ الأميركيِّ، والموت السريريِّ لمنظَّمة الأُمم المُتَّحدة تجاه القضيَّة الفلسطينيَّة. وبذلك أصبح الشَّعب الفلسطينيُّ مُلزَمًا ومدفوعًا إلى تفعيل مقاومته وتطوير وسائلها، وقَبل ذلك توحيد صفوفه ورمْيُ خلافاته وانقساماته وراء ظهره، فالقادم فوضى وشرٌّ مستطير.


خميس بن حبيب التوبي
[email protected]