حين بدأت العملية العسكرية الروسية الخاصة في أو كرانيا كانت توقعات معظم المحللين والمراقبين والمعنيين بالشأن الدولي أنها ستكون سريعة وكاسحة، وأن أوكرانيا ستعود إلى الطاعة مع جارتها روسيا، وأن العالم سيشهد قريبًا إنهاء هيمنة القطب الواحد وولادة فعلية لعالم متعدد الأقطاب. معظم هذه الآراء اعتمدت على نظرية أن هذه الحرب هي حرب وجودية بالنسبة لروسيا وليست كذلك بالنسبة للولايات المتحدة والغرب؛ لأن أوكرانيا ليست حيوية بالنسبة للولايات المتحدة، بينما هي حيوية وجوهرية لاستقلال وقدرة روسيا على مواجهة الغرب. رأينا اليوم وبعد انقضاء عام تقريبًا على بدء العملية العسكرية والشعور أن العملية العسكرية ما زالت في بدايتها في أوكرانيا وأنها كل يوم تشهد بدايات جديدة وبمجالات مختلفة فإن الجميع بدأ يتساءل إلى أي مدى ستستمرُّ هذه الحرب؟ وهل يمكن أن نشهد نهاية لها أم أنها تتطور في مناحٍ لم يكن أحد ليحسب لها حسابًا أو يتوقع مسارها أبدًا؟
ما السبب في هذا التحوُّل الذي أدخل الحيرة إلى أذهان البشر وترك أثرًا ملموسًا وغير محمود على مستوى حياتهم وطريقة عيشهم؟ السبب الأساسي هو أن الأزمة الدائرة في أوكرانيا لم تكن أبدًا ولا حتى منذ لحظة نشوبها حول أوكرانيا فقط، بل كانت حول قِيَم وطرائق عيش وتفكير وحكم في العالم برمَّته، وحول الطريقة التي يجب أن تدار بها العلاقات الدولية أيضًا، خصوصًا بعد أن أخذ النظام الذي أفرزته الحربان العالميتان بالتآكل. فقد بدأ الفراق بين روسيا والغرب منذ تراجع الغرب عن وعوده بحلِّ حلف الناتو الذي أخذ بالتمدد إلى أوروبا الشرقية، ولكنه ازداد منذ العدوان الغربي على ليبيا واستفراد دول الناتو بالتحكم بمصير ليبيا وعدم إيفائهم بوعودهم لروسيا، ثم زاد هذا الفراق حين أخذت الصين وروسيا الفيتو المزدوج ضد الخطط الغربية في الحرب الإرهابية على سوريا عام 2011 وتكرر هذا الفيتو لمرَّات في الأعوام التالية، واتخذت روسيا موقفًا واضحًا في دعم جهود الحكومة السورية في مكافحة الإرهاب، ولكن هذه كانت جميعًا مؤشرات ونتائج للأسباب الحقيقية لهذه الحرب الوجودية الدائرة اليوم في أوكرانيا أما الأسباب الحقيقية فهي أكبر من كل هذا وأهم.
قليلون هم الذين توقعوا أن الغرب سيعرِّض بلدانه وشعوبه لأزمات اقتصادية خانقة كي يرسل إلى أوكرانيا كل هذه الأموال وكل هذا السلاح وكل المرتزقة بحيث تحوَّلت الأزمة فعليًا إلى حرب تخوضها دول الناتو على الأرض الأوكرانية ضد روسيا وذلك لسببين اثنين: الأول هو أن الغرب الذي مرد على نهب ثروات العالم على مدى عقود لا يستطيع أن يفكر أبدًا بإنهاء سطوته على مقدّرات العالم وإنهاء دوره الذي يجني من خلاله أرباحًا طائلة، ويبني بلدانه على حساب إفقار الشعوب المستضعفة، ولا يمكن أن يقبل أن يرى وضع حدٍّ لهيمنته على قرارات وإرادة وثروات الدول والشعوب. والثاني هو أن معظم الناس اعتقدت أن الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تتعرض لها دول الناتو الأوروبية وأزمة الطاقة سوف تخرج الناس في مظاهرات احتجاجية عارمة، وبما أن هذه الدول تصوِّر ذاتها على أنها ديمقراطية، وأن الحكم للشعوب فإن هذه الشعوب سوف تنهي الأمر باستلامها هي مقاليد السلطة ووضع حدٍّ لمعاناتها وإدارة البلاد بطريقة تخدم مصالح ومستوى حياة شعوبها أولًا وليس بأسلوب يُعد تغذية الأزمة في أوكرانيا أولوية على حساب لقمة عيش هذه الشعوب لصالح الاقتصاد الأميركي الذي استفاد من بيع الغاز والنفط الأميركي لأوروبا بأسعار باهظة.
ما تكشَّف لنا اليوم وإلى حدِّ الآن هو أن الغرب يَعدُّ هذه الأزمة الدائرة في أوكرانيا حربًا وجودية له؛ لأن أمين عام الناتو قد أعلن منذ أشهر خلت: «إننا لا يمكن أن نسمح لروسيا أن تنتصر في هذه الحرب» ومسؤولين آخرين أعلنوا أن عليهم أن يقدِّموا كل أنواع الدعم إلى أوكرانيا كي لا تنتصر روسيا في هذه الحرب؛ لأن انتصار روسيا سيجعل منها القاعدة التي يُبنى حولها عالم متعدد الأقطاب يكون الغرب مجرَّد عضو فيه، لكنه لا يملك القدرة على فرض إرادته على الآخرين بالطريقة التي يفرضها اليوم. ولأن انتصار روسيا سيعني انتصار طرائق وقِيَم تهدِّد الطرائق والقِيَم التي يفرضها الغرب اليوم على العالم بقوة السلاح، ولأن انتصار روسيا سوف يعني أن الأقطاب الجديدة التي سوف تتشكَّل لن تسمح للغرب بشن الحروب التي يشنها بين الحين والآخر كي يحافظ على استمرارية المؤسسة الصناعية العسكرية التي تقوم عليها حكوماته ومؤسساته.
ولكنَّ ما تكشَّف لنا اليوم هو أن الديمقراطية التي يدَّعيها الغربي في دوله ومؤسساته ما هي إلا مجرَّد وهْمٍ زرعه في عقولنا نحن، وأن الحكم في الدول الغربية بيد مجموعة تمتلك المال والسلاح والإعلام؛ لذلك فإن الاعتقاد بأنها شعوب حرَّة، وأن قرارها مستقل، وأنها تغيِّر الأنظمة التي تحكمها متى تشاء هو وهْمٌ تُغذِّيه أجهزة الدعاية الغربية. فها هي شعوب الاتحاد الأوروبي والناتو والولايات المتحدة يدفعون ثمن سياسة الحكومات العميقة لتحالف مالكي الصناعة العسكرية والبنوك والمخابرات لموضوع لا علاقة له بمستوى ونوع حياتهم ولكنهم غير قادرين أن يفعلوا شيئًا. وها هو الإعلام الغربي مقيَّد في هذه البلدان بحيث يتعرض الإعلاميون لأشد العقوبات إذا تجرَّأ أحدهم حتى على طرح أسئلة تشكك بجدوى السياسات الغربية في أوكرانيا أو تحاول تفهُّم الموقف الروسي مما يجري في أوكرانيا؛ بحيث لم يتجرأ الإعلاميون حتى إلى الإشارة للرئيس بوتين دون اتِّهامه بالتُّهم التي يوجهها له أصحاب القرار في دولهم.
وما تكشَّف لنا أيضًا هو أن الليبرالية الغربية، وبالإضافة إلى استخدامها الإعلام كأداة ماهرة لتغيير تفكير البشر، قد خطت خطوات في السنوات الأخيرة لتغيير التركيبة الديمغرافية في العالم، سواء من خلال الأوبئة أو من خلال نشر أساليب حياة منافية تمامًا للفطرة البشرية السليمة ومنافية لمصلحة استمرارية البشر على هذا الكوكب. فبعد نشر الأوبئة في إفريقيا والصين والعالم من وباء الإيدز إلى وباء كورونا إلى أوبئة أخرى قد لا نعرف أسماءها، انتقل الغرب في السنوات الأخيرة إلى اتخاذ خطوات ملموسة لتطبيق مبدأ مالثوس في تقليص عدد البشر على الكرة الأرضية؛ لأن النُّمُو الغذائي، كما يدِّعي الغرب، لا يواكب النُّمُو السكاني وإلا ما الذي يقف وراء إجراءات الترويج للمثلية وفرض مناهج تجبر الأطفال على ممارسة الرذيلة وتدخل التشويه والسموم إلى عقولهم وأفكارهم في سنواتهم المبكرة.
وها هي الدول الأوروبية والولايات المتحدة يفرضون هذا الموضوع الخطير وغيرها من الأفكار المعادية للأديان كلها وللفطرة البشرية في مناهجهم دون أن يتمكن الناس من أن يرفعوا أصواتهم أو يضعوا حدًّا لهذه الحملات التدميرية الخطيرة جدًّا على البشر في كل مكان. ولإنجاز هذه المخططات الخبيثة في بلدانهم وفي بلدان أخرى في العالم فقد اتبعوا أسلوب اختراق المجتمعات من خلال شراء الذمم والضمائر في هذه المجتمعات واستخدام هؤلاء كأدوات رخيصة لزرع بذور الشك في أذهان المؤمنين بقِيَمهم وأخلاقهم ومعتقداتهم، ثم استخدامهم لإحداث تغيير في هذه المجتمعات تناسب الخطط الخبيثة التي تروج لها الدوائر الحاكمة في الغرب. ومن هنا فقد رفعوا ميزانياتهم الإعلامية التضليلية؛ لأنهم يركزون اليوم على تغييرات جوهرية في ثقافة الشعوب ومبادئها وإيمانها بمعتقداتها وأيديولوجياتها. وعلى التوازي يقوم الغرب ببناء تحالفات إقليمية في مناطق مختلفة من العالم: الشرق الأوسط، إفريقيا، وأميركا اللاتينية، وبحر الصين كبؤر ثقافية تابعة له مكلَّفة بنَشْرِ مبادئه والعمل بما يتناسب ومصالحه بما في ذلك تفكيك الأواصر العائلية وتدمير الحياة الاجتماعية.
ولا بُدَّ لنا نحن اليوم وفي ضوء كلِّ هذا أن نتوصل إلى استنتاجات تشكِّل أسسًا ثابتة وغير قابلة للشك في مرجعياتنا وأولها هي أن الغرب الذي يدَّعي الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان قائم ومنذ الأزل على قتل الشعوب الأصلية والاستيلاء على أرضها وثرواتها، وبناء ما أسماه «حضارته»، وأن الديمقراطية التي يدَّعي في الحكم أو الإعلام وهمٌ خطَّه وصدَّره لنا ولا أساس لها من الصحة، وأن ما تحاول الليبرالية الغربية اليوم نشره مدمِّر للمجتمعات البشرية، وأن استمرار هيمنة الغرب تعني استمرار اندلاع الحروب ومعاناة البشر ونهب الشعوب، وأن حرب الإبادة التي يشنها اليوم العدو الصهيوني في فلسطين مع ترويجه لثنائية العيش المشترك تندرج بالضبط في هذا الإطار. وبسبب كل هذا وذاك فإن الأزمة الدائرة في أوكرانيا هي حرب وجودية لروسيا وللمعسكر الشرقي برمَّته ولنا جميعًا، وساحتها ليست الأرض الأوكرانية فقط، وأدواتها لا تقتصر على الدبابات والقنابل والطائرات وإنما من أدواتها الفتاكة أيضًا الثقافة والإعلام والمناهج المدرسية والدراسية التي تهدِّد المعتقدات والعادات والتقاليد والإرث الثقافي والحضاري للشعوب، وكل ما يُسهم في تكوين إنسانية الإنسان وارتقائه إلى المستوى الذي خصَّه الخالق به وفضَّله على كل أنواع خلقه. ولهذا أيضًا فإن الحروب الوجودية الدائرة اليوم هي حروب وجود لنا جميعًا وعلى كل إنسان على هذه البسيطة أن يشعر بواجبه ويقوم بدوره؛ كي لا يتم حرف وتشويه البوصلة الإنسانية الأخلاقية السليمة.



أ.د. بثينة شعبان
كاتبة سورية