كلما طالعَنا شهرُ رجبٍ الفرد، وهلَّ علينا نورُ هلاله، اعتبقْنا شذا أريجه، وتنَسَّمنا عطرَ الأشهر الحرم، وملأ الأملُ قلوبَنا؛ لأنه الشهر الذي يتجلى الله فيه بخيره يصبه صبًّا، ورحمته يوسِع بها عباده تكرما، وعطاء، وَوُسْعا، ومغفرته يشمل بها كونَه، وفيوضاته يملأ بها حياة المؤمنين به، والمتوكلين عليه، والذين وضعوا حياتهم رهنا لعبادته، ووقفا على مرضاته، وحبا في طاعته، ورحمته.
ومطلعُ سورة الإسراء يشرح طبيعة الإسراء، ومصدره، ومبدأه، ومنتهاه، وأغراضه، وقِيَمَه، ومقاصده، حيث بدأت الآية بالتنزيه، والتبجيل، والتعظيم، والإقرار لله بالعظمة، حيث إن الحادثة كلَّها لا يستطيعها بشر، وليست في مكنة أحد، ولا يقوى عليها كلُّ الخلق، ولا الملائكةُ المقربون، إنها لله وحده؛ ثم قال تعالى:(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).
بدأت الآية بقوله تعالى:(سبحان) الذي يعني كمال التنزيه، وجلال المناسبة، وجمال القدرة، فهو أسلوبُ تنزيهٍ، يَرِدُ غالبًا في كبريات الأحداث، وعظائمِ الأمور، ولأن أحداث الإسراء، ومرائيه، وكل ما حدث فيه هو شأن لله وحده، وعملٌ لا تقوى عليه السمواتُ، والأرض؛ ولذلك كان هذا الافتتاحُ الوحيدُ في القرآن الكريم الذي يدل على جلال المعجزة، وكمال العناية، وخطورة الحدث، وأنه لا يقوم به أحدٌ من خلق الله، وهو وقف على رب الأرباب، وإله السموات، والأرض، وصاحب الملك والملكوت، ومن بيده أمر الكون كله، جل من رب!، وتقدس من إله!.
وجاء المضاف إليه اسمَ موصولٍ، هو:(الذي) وورد هنا صفة لموصوف غير مذكور؛ وذلك للعلم به، أيْ:(سبحان اللهِ الربِّ العظيمِ المتفضلِ الكريم الذي أسرى..)، وهذا من عادة القرآن الكريم، ومنه قوله تعالى:(سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ..)، ونحو: (فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، على أن تلك اللفظة الكريمة قد ذُكِرَتْ أيضًا بإضافتها إلى (الله)، كما في نحو:(قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف ـ 108)، ونحو:(لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) (الأنبياء ـ 22)، ونحو:(مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (المؤمنون ـ 91)، وأحيانًا تضاف إلى كلمة (ربي، وربك، وربنا)، نحو:(وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا) (الإسراء ـ 108)، ونحو:(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) (الصافات 180 ـ 181)، ونحو:(سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) (الزخرف ـ 82).
والفعل (أسرى) هو فعلٌ ثلاثيٌّ مزيدٌ بالهمزة التي تفيد التعدية، والتقوية، وتعني أن الله هو الذي أسرى به، ولم يقل هو نفسه (صلى الله عليه وسلم):(سريتُ)، فالأمر أكبر من قوة كلِّ البشر، ولا يقوم به إلا الله، وهو كناية عن قوة الفعل، وسعة قدرة الله، فالفاعل المستتر هو (الله)، و(السُّرَى) السير ليلا، حيث الصفاء، والمناجاة، وحيث الهدوءُ، والتملِّي، وحياة الروح، والتأمل، وإتاحة الفرصة لحديث النفس، وتوارد أسباب القرب، والطاعة، والتخلِي للتحلِّي.





د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية
[email protected]