لقد فضّل الله تعالى بعض الشهور على بعض، لما في تلك الشهور من أحداث عظيمة ونفحات ربانية كريمة، خاصة وإن كان شهرا ذات صبغة مباركة، كشهر الله رجب، والذي اختصه الله تعالى بذكره في كتابه العزيز، كما أن أيام هذا الشهر شهدت أحداثًا مباركة عبر التاريخ، وعلى سبيل المثال نبي الله نوح (عليه السلام) ركب السفينة في هذا الشهر الفضيل، فـ(عن عبد العزيز بن عبد الغفور، عن أبيه، قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: في أول يوم من رجب ركب نوح السفينة، فصام هو وجميع من معه، وجرت بهم السفينة ستةَ أشهر، فانتهى ذلك إلى المحرم، فأرست السفينة على الجوديّ يوم عاشوراء، فصام نوح، وأمر جميع من معه من الوحش والدوابّ فصامُوا شكرًا لله) (تفسير الطبري، جامع البيان 15/‏ 335).
إنّ معنى رجب في اللغة: جاء في كتاب (العين 6/‏ 113):(رَجَبٌ اسم الشهر، فإذا ضمُّوا إليه شَعبان فهما الرَّجَبانِ. وكانت العربُ تُرَجِّبُ، وكان ذلك لهم نُسُكاً وذبائِحَ في رَجَبٍ. والرَّجَبُ والرَّجَبَة، والجميعُ الرِّجابُ)، (وَكَانَت الْعَرَب تُرَجِّبُ، وَكَانَ ذَلِك لَهُم نُسُكًا أَو ذَبائِح فِي رَجَب. وعَن الأصمعيّ وَالْفراء: رَجَبْتُ الرَّجُلَ رَجَباً، إِذا هِبْتَهُ وعَظَّمْتَه، أرْجَبَهُ، أَي أُعَظِّمهُ. ومِنه سُمِّي شهر رَجَبَ) (تهذيب اللغة 11/‏ 38)، وجاء في (غريب الحديث للخطابي 2/‏ 126): (إنّ العرب كانوا يعظمون الأشهر الحرم، ويتحاجزون فيها فلا يتقاتلون، يرى الرجل منهم قاتل أبيه فلا يمسه بسوء ولا ينداه بمكروه ولذلك كانوا يسمون رجبًا شهر اللَّه الأصم، وذلك لأن الحرب تضع أوزارها فلا تسمع قعقعة سلاح ولا صوت قتال، ويسمونه كذلك منصل الأسنة، لأن الأسنة كانت تنزع من الرماح، فلا يزال هذا دأبهم ما بقي من أشهر الحرم شيء، إلى أن تكون آخر ليلة منها فما أن تنصرم عَنْ يقين فيكثر الفساد في تلك الليلة وتسفك الدماء وتشن الغارات)، ويقول القرطبي:(وكانت العرب قد جعل الله لها الشهر الحرام قوامًا تعتدل عنده، فكانت لا تسفك دمًا، ولا تغير في الأشهر الحرم، وهي: رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ثلاثة سرد وواحد فرد) (تفسير القرطبي 3/‏ 45)، (فقرر الله في قلوبهم حرمتها، فكانوا لا يروعون فيها سربًا - أي نفسًا - ولا يطلبون فيها دمًا ولا يتوقعون فيها ثأرًا، واقتطعوا فيها ثلث الزمان، ووصلوا منها ثلاثة متوالية، فسحة وراحة ومجالًا للسياحة في الأمن والاستراحة، وجعلوا منها واحدًا منفردًا في نصف العام دركًا للاحترام، وهو شهر رجب الأصم ويسمى (مُضر)، كانوا إذا دخل رجب نزعوا أسنة الرماح ونصال السهام إبطالًا للقتال فيه، وقطعًا لأسباب الفتن لحرمته، وهو شهر قريش، وسماه النبي (صلى الله عليه وسلم) شهر الله، أي: شهر آل الله، وكان يُقال لأهله الحرم:(آل الله)، ويحتمل أن يريد شهر الله، لأن الله متنه وشدده إذ كان كثير من العرب لا يراه) (المرجع السابق 6/‏ 326). وقد ذكر الله تعالى هذا الشهر في القرآن الكريم على سبيل الإفراد والتخصيص، وذكره الله تعالى مجملًا مع الأشهر الحرم أيضًا، فأما عن ذكره وحده فقد قال تعالى:(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة ـ ٢١٧)، يقول الطبري في (جامع البيان، ت: شاكر 4/‏ 307):(عن مجاهد في قول الله:(يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه)، قال: إن رجلًا من بني تميم أرسله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في سرية، فمرَّ بابن الحضرميّ يحمل خمرًا من الطائف إلى مكة، فرماه بسهم فقتله، وكان بين قريش ومحمد عَقْدٌ، فقتله في آخر يوم من جُمادى الآخرة وأول يوم من رجب، فقالت قريش: في الشهر الحرام! ولنا عهد! فأنزل الله ـ جلَّ وعز:(قل قتالٌ فيه كبيرٌ وصدٌّ عن سبيل الله وكُفرٌ به والمسجد الحرام وإخراجُ أهله منه أكبرُ عند الله..) من قتل ابن الحضرميّ، والفتنة كفرٌ بالله، وعبادة الأوثان أكبر من هذا كله).. يتبع في العدد القادم.



محمود عدلي الشريف
[email protected]