في الذكرى الثالثة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست) ما زال الموضوع عنوانًا رئيسيًّا مُهمًّا للسياسة والاقتصاد في المملكة المتحدة. فعلى مدى عامين من انفصال بريطانيا عن أوروبا بعد نحو نصف قرن من عضويتها للاتحاد، لا يشعر البريطانيون بأي من الإنجازات والفرص التي صوَّتوا على أساسها لصالح بريكست في استفتاء 2016. ليس أن الفوائد لم تحدث فحسب، بل إن بريطانيا تعاني اقتصاديا وسياسيا حتى بشكل غير مسبوق منذ أصبحت خارج الاتحاد الأوروبي. وبدأ مَن صوَّتوا للخروج، مصدقين شعارات مجموعة البريكست في حزب المحافظين الحاكم، يشعرون أنهم أكثر المتضررين من الخروج. لكن بالطبع فات أوان أي ندم، وليس أمام كل هؤلاء سوى الاستمرار في الحديث عن إنجاز أن بريطانيا «أخذت زمام أمورها بيدها» من بيروقراطية الاتحاد.
يُعد بريكست أهم إنجاز في مسيرة رئيس الوزراء السابق بوريس جونسون، وما زال فريقه في الحكم حتى بعد استقالته صيف العام الماضي، إذ خلفته ليز تراس التي لم تستمر أسابيع في الحكم ليخلفها ريشي سوناك الذي كان وزير خزانة في حكومة جونسون. وبالطبع ليس أمام كل هؤلاء سوى الدفاع عن بريكست رغم نتائجه السلبية الواضحة، خصوصا على الاقتصاد. فحسب صندوق النقد الدولي أصبح الاقتصاد البريطاني في وضع أسوأ بين أقرانه ليس فقط في مجموعة السبع الغنية، بل حتى في مجموعة العشرين بما في ذلك روسيا التي تعاني من تبعات الأزمة في أوكرانيا. وبغضِّ النظر عن أداء الاقتصاد الكلِّي ومؤشراته السلبية فإن الناس العادية في بريطانيا بدأت تشعر بالفارق بين كلفة المعيشة التي ما عادت محتملة ونظيرتها المحتملة نسبيا في دول أوروبا. لكن ما باليد حيلة الآن سوى محاولة إعادة التفاوض مع الأوروبيين على شروط اتفاق بريكست أفضل مما توصل إليه بوريس جونسون بنهاية عام 2020. ومع أن أوروبا أيضًا تضررت من خروج بريطانيا إلا أن الضرر عليها أقل، ولسان حالها يقول للبريطانيين الذين صوَّتوا للخروج «وعليكم البريكست» فهذا ما أردتموه لأنفسكم.
أهم شعارين لفريق البريكست أقنعوا بهما الناس للتصويت لصالحه هما أن بريطانيا خارج أوروبا ستتمكن من عقد اتفاقات تجارة حرة مع شركائها في العالم تعود عليها بمنافع أضعاف ما يعود عليها وهي ضمن الاتحاد الأوروبي. والشعار الثاني كان وقف الهجرة إلى بريطانيا، وهي قضية مهمة للبريطانيين، خصوصا المؤيدين لحزب المحافظين، لأسباب تتعلق بالمشاعر القومية أكثر منها لأسباب اقتصادية؛ إذ إن الاقتصاد البريطاني بحاجة دوما للعمالة المهاجرة كي يحافظ على النمو. ومنذ اليوم الأول لبريكست سارعت حكومة بوريس جونسون وقتها لعقد اتفاقيات تجارة حرة من شركائها من كندا إلى اليابان وأستراليا، لكن الاتفاق الأكبر والأهم مع الولايات المتحدة لم يتم لأسباب عدة منها استمرار مشكلة بروتوكول أيرلندا الشمالية الملحق باتفاق بريكست.
لم تضف كل تلك الاتفاقيات الكثير لبريطانيا عما لو كانت ظلت ضمن الاتحاد الأوروبي، بل على العكس جاءت بعض الاتفاقات ضارة بالجانب البريطاني كما كشف بعض الوزراء السابقين المشاركين في المفاوضات بشأن الاتفاقية مع أستراليا والتي عدُّوها أسوأ لبريطانيا. في المقابل، تراجعت التجارة مع الشريك الأكبر لبريطانيا وهو أوروبا. وكانت النتيجة أن الصادرات البريطانية انخفضت بنحو خمسة عشر في المئة في الوقت الذي تنمو فيه تجارة الآخرين بما يقارب العشرة في المئة. مع أن بريطانيا كان المفترض أن تزيد تجارتها أكثر من الآخرين بعد بريكست! أما قضية الهجرة، فلعل الأحداث على مدى العامين الماضيين والأرقام الرسمية تشير إلى أن بريكست لم يؤدِّ إلى أي تحسُّن. بل على العكس زادت المشاكل مع تمسُّك الأوروبيين بعدم مساعدة بريطانيا في وقف الهجرة غير الشرعية عبر القنال الإنجليزي من فرنسا وغيرها.
ونتيجة بريكست غادر بريطانيا مئات الآلاف من الأوروبيين الذين كانوا يعملون في الخدمات التي لا يوجد بريطانيون يعملون بها، فضلًا عن سائقي الشاحنات وعمَّال الزراعة الموسميين والتمريض وغيرها. وحين واجهت بريطانيا أزمة سائقين العام قبل الماضي لم تستطع استقدام سائقين من أوروبا لحل مشكلة أزمة محطات البنزين الشهيرة التي خنقت البريطانيين وقتها. هذا بالطبع إلى جانب مشاكل أخرى كثيرة أضرَّت ببريطانيا وكان لها تأثير مباشر على الحياة اليومية للناس. ليس أقلها الخلافات على الصيد بين فرنسا وبريطانيا، والتي وصلت في إحدى المرات إلى عتبة اشتباك مسلح بعد تحريك قطع أسطول حربي لحماية الصيادين. وبعد عامين من بريكست، ما زالت حكومة المحافظين تكابر بأنه إنجاز رغم نتائجه السلبية الواضحة. بل إنها في ظل عدم قدرتها على مواجهة مشاكل تكاليف المعيشة تريد «إعادة تدوير» إنجاز البريكست كشعار للانتخابات العامة العام القادم. وتعمل على «تخويف» الناخبين من أن حزب العمال المعارض سيعيد بريطانيا إلى «حضن أوروبا» إذا فاز في الانتخابات وشكَّل الحكومة. لذا، وفي انتهازية سياسية واضحة، غيَّر زعيم المعارضة العمالية السير كيير ستارمر موقفه بالكامل ليؤكد أن بريكست لا يمكن الرجوع عنه، وأنه سيعمل على تحسين اتفاق الخروج بالتفاوض مع الأوروبيين.
د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري
mustafahmed@hotmail.com