يخطئ من يعتقد بأن شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت) لم تحدث تغيرًا اجتماعيًّا جذريًّا في مجتمعات العالم، ومجتمعات العالم العربي خصوصًا. بدليل هجر النشء والشبيبة للمقاهي التي كانت إحدى الظواهر الحضرية المهمة للمدينة العربية طوال عصور: ربما سنحيا يومًا تكون فيه المقهى أثرًا طلليًّا من بقايا التاريخ المطوي!
وإذا ما كانت شبيبتنا العربية قد انكفأت على الحواسيب «الكومبيوترات» لقضاء أطوال زمنية قياسية (قد تكون على حساب الدراسة والتعلم والرياضة)، فإن شبيبة الجيل الذي سبق الجيل الحالي لم تكن تعرف سوى المقهى لقضاء الساعات الطوال في أنشطة تبادل أطراف الحديث مع أصدقاء الحي الذين غالبًا ما يجتمعون هناك كل مساء، فيتناولون الشاي أو القهوة أو المشروبات المرطبة، وقد يلعبون نوعًا من الألعاب المسلية البريئة مثل «الدومينو»، أو «البليارد» أو «الطاولة»، من بين سواها من وسائل اللهو.
ويتذكر الختيارية من أبناء جيلي، أو الأجيال التي سبقته ذلك الدور الاجتماعي، بل وحتى السياسي الذي لعبه المقهى عبر المجمَّعات الحضرية في مُدن عالمنا العربي الواسع: فهناك من كان يَعد المقهى من أدوات قتل الزمن وإضاعة الوقت، كما كان هناك من يَعد المقهى مكانًا لتبادل الآراء، لا سيما الاجتماعية والسياسية منها. لذا ظهرت في مُدن مثل بغداد (على سبيل المثال) مقاهٍ عرفت بأنها تجمُّعات لفئات سياسية أو اجتماعية معيَّنة: مثل «المقهى البرازيلي» الذي كان يرتاده الأغنياء، ومقاهي الأعظمية والكرخ التي كانت حكرًا على القوميين والبعثيين، ناهيك عن مقاهي الصُّم والبُكم (ويُسمى مقهى الخرسان) ومقاهي أفلام الفيديو، ومقهى خاص بالأدباء والمتشبثين بأذيال الثقافة والفنون، مثل مقهى «حسن عجمي» و»مقهى البرلمان» الذي يمكن أن يكون قد اكتسب اسمه بسبب ارتياده من قبل أعضاء البرلمان في العهد الملكي: زد على ذلك «مقهى العباقرة» الذي اكتسب اسمه من ادعاء بعض روَّاده التأمليين العبقرية!
ناهيك عن مقهى مشهور على شارع أبي نؤاس، واسمه «مقهى المعقدين»! فهل تودُّ أن تجالس المجانين أو أنصاف المجانين، فاذهب إلى مقهى المعقدين الذين يحتسون الشاي أو نقيع الـ»نومي بصرة» ليبقوا جلوسًا يتأملون الماشي والزاحف والسابح والطائر دون حراك أو حتى كلام!
وإذا جاء اليوم الذي ينقرض فيه المقهى، فالعتب على الإنترنت!


أ.د. محمد الدعمي
كاتب وباحث أكاديمي عراقي