عندما نصف شعبا ما بأنهم أصحاب فن مثلا أو ذوو نكتة أو أهل تجارة فلا شك أن هذا الوصف يأتي في الغالب نتيجة براعة هذا الشعب أو تلك الجماعة في هذا المجال؛ بحيث لا يستطيع أحد بزَّهم والتفوق عليهم. ولكن هذا التفوق في الأساس قائم على أُسس متينة لعلَّ أبرزها امتلاكهم لناصية هذا المجال نتيجة وجود خبرات متراكمة بنيت في الواقع على أرض صلبة. وحتى أوضح الأمر بصورة أبسط ولنأخذ مجال التجارة الذي برع فيه الشعب الهندي مثلا والذي لا يختلف اثنان على أنه من الشعوب التي تمتلك حسًّا تجاريًّا، لكن هل سألنا أنفسنا لماذا امتلكوا هذه المهارات التجارية؟ هل الأمر مرتبط بعوامل الأرض مثلا أم بطبيعة البشر؟ أم بوجود ضوابط سهلت هذا العمل ودعمت توجههم له؟ في اعتقادي الشخصي أن العامل الأخير هو السبب في ما أريد الذهاب له. فالتاجر الهندي مثلا يتعامل مع الكل بصورة متساوية في عملية البيع دون تفرقة، ويعطي نفس السعر للجميع. وهنا لا أتحدث عن حالات شاذة للقاعدة، بل أصف القاعدة فقط. كما أن وجود هامش ربح محدَّد وبسيط يكفيه لاستمرارية وتطوير تجارته؛ لأنه يدرك أن الربح القليل مع كثرة وجود زبائن أفضل من ربح مبالغ فيه يقلل في النهاية عدد المشترين.
ما أريد التأكيد عليه أن هنالك قواعد أساسية للبراعة في أي مجال من المجالات متى ما كانت حاضرة ستستمر الريادة في هذا المجال لهذه المجموعة البشرية ومتى ما اختلت فلا شك أنها النهاية. قبل فترة قصيرة احتجت لتبديل بطارية جهازي اللوحي فذهبت إلى أحد محالِّ التصليح في الولاية فأعطاني سعرًا أحسستُ أنه مبالغ فيه، ولكنَّني ومن باب البحث عن سعر آخر ولمجرد الاطمئنان بأن السعر مناسب تواصلت مع صاحب محل آخر كنت باستمرار أتعامل معه ومن فترة طويلة وأثق في أمانته، ولكن شاءت الظروف في ذلك اليوم أن محله مغلق فذهبت لهذا المحل، ليفاجئني من خلال التواصل أن سعر البطارية لا يتجاوز نصف المبلغ الذي أعطاني إياه صاحب المحل الأول، وبنفس العلامة (الماركة) والمواصفات، وعندها أخذنا الحديث حول موضوع اختلاف الأسعار وعدم وجود ضوابط محددة لصعوبة ذلك في الأساس في سوق حر ومفتوح. ولكن نرجع للأساس الذي تحدثنا عنه وهو المعايير التي يجب أن نمارسها لننجح، فبدونها لا يمكن الاستمرارية. ومن خلال الحديث ذكر لي قصصا كثيرة وكيف أنه يتعرض لمضايقات من زملاء المهنة لعدم رفعه للأسعار بصورة مبالغة، بل يذكر في إحدى المرَّات أن تم الاتفاق على محاولة إخراجه من السوق بقيامهم ببيع بعض المنتجات بسعر التكلفة في محاولة يائسة منهم لتعريضه لخسائر فادحة، لكن أمانته وخبرته في السوق ـ بعد توفيق الله ـ شفعت له لكي يستمر في مجال عمله، وما زال منذ أكثر من عشرين سنة في هذا المجال، وهنا تظهر أخلاق التجارة.
إن التاريخ التجاري البحري مثلا الذي اشتهر به العُمانيون لم يكن وليد صدفة، بل هو نتاج جهود بُذلت، وكُتُب أُلِّفت، وخبرات تراكمت، وأخلاق تم التعامل بها حتى لو لم تكن هنالك وثائق ومعاهدات مكتوبة، وهي التي أعطتهم صفة ربابنة البحر وأسياده، وبالتالي إذا أردنا أن ننجز في مجال معيَّن يجب أن نمارسه بأخلاق إنسانية وإسلامية واضحة لا لبس فيها، لا نتعامل مع المشتري مثلا في مجال التجارة بالأهواء والربح السريع المبالغ فيه، بل بالقواعد الأساسية التي تحكم عملية البيع والشراء، والرهان الذي يعتمده الكثير من التجار الآن والمتمثل في عملية الربح المبالغ فيه هو رهان خاسر؛ لأنه ينفر الزبائن ويجعلهم يتجهون إلى أماكن ومواقع أخرى، خصوصا مع ثورة التكنولوجيا الحالية والقادمة، وعندما نقول إن تجارتنا كاسدة، فالكساد ناتج من ابتعادنا عن قواعد التجارة في الأساس وأخلاقها.
فالأخلاق حتى ولو لم نكن نراها بالعين المجردة وحتى لو تناسيناها واعتقدنا أننا نتعامل بالجانب المادي فقط فلا شك أننا جانبنا الصواب، والشعوب التي برعت في مجال التجارة برعت بسبب نبل أخلاقها حتى لو لم تكن مسلمة.


د. خصيب بن عبدالله القريني
[email protected]