عمّان ـ العُمانية: ينصت التشكيلي الأردني الدكتور خالد خريس في أعماله الفنية، لأصوات الطبيعة ومفرداتها، محاولًا أن يبوح بما توحي به تلك الأصوات وما تقدمه من رؤى حول تكامل الحياة عبر مكوناتها، فيكون لزخات المطر وهواجس الصحراء ودوران النقطة التي تحيل إلى ذرات هذا الكون الواسع، معانٍ عميقة ودلالات واسعة.
يعمد خريس المولود في الكرك جنوب الأردن عام 1955، إلى مخيلته التي تشكلت عبر بيئة ثرية بالصورة، ملأت مخزونه الأول الذي استقى منه إبداعاته فيما بعد، وهذا ما يتجلى بوضوح على سطوح أعماله، حيث تنتشر الرموز والعلامات والإشارات التي تشير للمعنى ولا تقوله، فهدفها الأول ليس القول بمقدار ما هو تأسيس لحالة خصبة وجمال بصري وثراء لوني. لذا يشعر المتلقي أن عالم خريس الموجود في اللوحة هو خلاصة رحلة عميقة في مفردات الكون وتفاصيله، كما يراها بعينيه ويستشعرها بقلبه ويحتفظ بها في ذاكرته الأولى.
ويحتفي خريس الذي درس الرسم والحفر الطباعي في جامعة سات جوردي بإسبانيا ثم حصل على شهادة الدكتوراة في الفلسفة وتاريخ الفن من جامعة برشلونة عام 1993، بما في ذاكرته وبما يعيشه في اللحظة الراهنة، عاقدًا بين هذه وتلك حواراتٍ تجعل من تقارب الزمنين أمرًا ممكنًا، متسلحًا في كل ذلك برؤية صوفية روحانية تؤكد وحدة الإنسان والطبيعة، وباثًّا إشاراته التي تستحضر تلك المفردات في حال غيابها، وتسترجعها من مكانها القديم لتضعها في الراهن مختبرةً قدرتها على التحول وبالتالي على الصمود والبقاء.
نشاهد ذلك في أعمال خريس المنفذة بالأكريليك على قماش والتي حملت عنوان «ما بين الضوء والعتمة» (2011)، حيث ركز الفنان على جدلية العلاقة بين الضوء والعتمة، وقدمها بأسلوبه التجريدي الذي جعل من هذين المتناقضين وجهًا واحدًا للوجود، وقد نُفذت الأعمال ضمن طبقات لونية كثيفة وتشكيلات من دوائر ونقاط وخطوط كلٌّ منها يُبرز الآخر بقدر ما يحاوره ويتقارب معه، فلولا العتمة لم يُعرَف الضوء، ولولا الضوء لاعتدنا وحشة العتمة، وهنا تبدو هاتان المفردتان متعالقتَين مع كل ما حولهما من شجر وبحر وبشر وحتى من آمال وأمنيات وبوح.
وقدم خريس في معرضه «ناس ومكان وأثر» (2011) تجربة تُقارب التجريد والبعد الفلسفي الصوفي الذي يتمحور حول تفاعل الذات مع محيطها وصولًا إلى استكناه معنى وجودها، وترتكز الأعمال في هذه التجربة على رموز تشير إلى «الربيع العربي» وصوت المجاميع البشرية، كما تلقي بظلالها على رمز الكرسي وارتباطه بالسلطة.. ويعرض الفنان في هذه السياقات مغامرة فنية تقود إلى الدهشة والمفاجأة اللتين تتحققان عبر تشكيلات بصرية ولونية ممتعة.
والناظر لهذه التجربة يجد تواشجًا بينها وبين تجربة الفنان مع رسومات الحشود البشرية، وبخاصة لجهة فضاء اللوحة الممتلئ بالأشكال والنقاط والثنائية اللونية بين الأسود والأزرق، وكذلك بين الأسود والبني.. إذ يقدم خريس كما في معظم أعماله نوعًا من التأويل البصري، محاولًا بذلك التركيز على مواضع الغموض في المشهد والتي هي أساس جاذبيته، ويتأتى له ذلك عبر تحريك المشهد بحيث لا يبقى شيء في مكانه، وهنا يقصّر الفنان المسافة بين ذاكرته وما يرسمه بقدر ما يقارب بينهما. ويتتبع خريس الذي نال جائزة الدولة التقديرية في الفن عام 1995، التطور الشخصي في علاقته الذاتية مع الأشياء، فتلك الحياة التي تخصه لها أبواب مواربة تسمح بدخول الآخرين إليها وترك أثرهم عليها أيضًا، وهو هنا يحاول أن يمحو أثر الآخرين مبرزًا أثره الشخصي ومحتفيًا به عبر تقديم منظوره للأشياء حوله، كيف يراها ويسمعها ويحاورها.
يتجلى هذا المسعى في معرض آخر حمل عنوان «ذكريات المطر» (2019)، تضمن أعمالًا تمثل خلاصة تجربة الفنان مع اللون، إذ قدم خريس الذي نال وسام الاستحقاق المدني من ملك إسبانيا خوان كارلوس الأول عام 2004، رسمًا مقننًا لا يبرز من التفاصيل سوى ما هو ضروري منها وفقًا لما تحدده عين الفنان، فالحذف هو الطابع الأساسي لأعمال هذه التجربة، ولعل ذلك ما وسمها ببساطة الشكل وعمق المعنى، والولوج من باب السهل الممتنع، حيث تغدو السماء بأطيافها قابلة للإمساك بها، وهي تدنو لتعانق التراب والبحر والشجر عبر مخاضات لونية متراكبة، ولّدت شيئًا جديدًا لا يظهر على أنه سماء أو أرض، بل هو شيء جديد له معنى عميق وإشارة قوية على وحدة الكون وتآلفه وسحره غموضه.