..وقوله:(بعبده) هو كناية عن الحب الشديد من الله لرسوله الكريم، وأن منزلة العبودية فوق كل منزلة، وهي تشريفٌ لكل عبدٍ صادقٍ مع الله، ومحبٍّ لله، والإضافة للتشريف، فهو عبد لله، لا لسواه، وتدل على أن الحادثة حصلتْ له صحوًا لا منامًا، وحقيقة لا حلمًا، لا كما يقول بعضهم أنها حصلت له منامًا لا قيامًا، فـ(بعبده) تقتضي السرى بالروح، والجسد، وتدفع كلَّ رأي يجعلها بالروح فقط، أو في المنام فقط، فينفي عندئذ قوة المعجزة، وقدرة الله على السرى برسوله روحًا وجسدًا، وبالطبع، فإن منزلة العبودية هي أشرف منزلة للعبد مع ربه.
ولو كان هناك مقامٌ أجلُّ، وأرفعُ من مقام العبودية لقاله القرآن الكريم، واختاره لرسوله(عليه الصلاة والسلام)، ثم فأشرفُ، وأجلُّ، وأعظمُ، وأرفعُ مقامٍ هو مقام العبودية، وهو كناية كذلك عن منزلة، ومكانة، وقدر، ومقام الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم)، وقوله:(ليلًا) تعني: أن كل المعجزة حدثتْ في جزء من الليل، وهو كناية عن طلاقة القدرة الربانية، كما أن التنكير يفيد قلة الزمن، وأنه حدث في وقت ما من أوقات الليل، وهو ما عبَّر عنه النبي(صلى الله عليه وسلم) لاحقًا حيث ود عنه أنه ما أخذ في رحلته من الزمن إلا القليل بدليل أنه عاد، ولم يزل مكانه الذي كان ينام فيه دافئًا كما كان، وهذا جاء دليلًا على سرعة تنفيذ الأمر، وعدم تطلُّبه وقتًا، كما نفعل نحن في أمورنا الحياتية الزمنية، التي تتطلب زمنًا بشريًا تقوم فيه أفعالنا وأقوالنا.
وقوله:(من المسجد الحرام) (من) هنا لابتداء الغاية المكانية، فقد حدَّدَتْ مكان الرحلة، ومبدأها، وأنها من مكان عبادة، هو أطهر، وأول بيت وُضِعَ للناس، وهو اسمُ مكان على وزن (مَفْعِل)، مع أن فعله مضموم العين(يَسْجُدُ)، وكان يلزم وفق القاعدة أن يقال:(مَسْجَد) بفتح الجيم على وزن (مَفْعَل) إلا أن العرب لا يقولون (مَسْجَد) بفتح الجيم، فحكى القرآن الكريم الاستعمالَ الحقيقي الخاص بهم؛ ثم قال النحاة:(هو شاذ قياسًا، فصيح استعمالًا)، أي: أن الوارد على ألسنتهم، وإن خالف أصل القاعدة، وهو يبيِّن أن القرآن الكريم نزل بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ، فلم يخلد إلى القاعدة بقدر ما استعمل ما تتفوَّه به الألسنة، فهو أصدق في رصد الظاهرة اللغوية، والاستعمال الصحيح الذي تتكلم به العرب في أحاديثها وكلامها، وإنْ خالف أصل القاعدة، فهناك كلماتٌ خرجت عن القاعدة بسبب الاستعمال اللغوي لكل العرب لها.




د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية
[email protected]