هناك مقولة شائعة لا يدري المرء مدى دقتها العلمية ولا حتى ما هو مصدرها: دائما ما تجد الطبيعة طريقة. رغم تقدم العلم والتكنولوجيا، هناك أمور في الطبيعة مستعصية على سبر غورها. وذلك منطقي لأن مهمة الإنسان على الأرض هي «تطويع» الطبيعة وإذا وصل إلى منتهى المعرفة بها فلن يكون هناك أي مجال لسعي البشر للتقدم والتطور بعدئذ. من تلك الأمور الكوارث الطبيعية مثل الزلازل والبراكين وغيرها. صحيح أن علوم الجيولوجيا والفيزياء الطبيعية يمكن أن تفسر تلك الظواهر، لكن حتى الآن لم يتمكن الإنسان من تفاديها وإن استطاع التخفيف من حدة أضرارها بتوقع أماكنها نسبيا وابتكار طُرق بناء وإنشاء تقلل من خطرها. لكن كل ذلك كلام في المطلق ومبتسر، ولا يعني أن كارثة الزلازل التي بدأت من تركيا وأضرت بجنوب شرقها وبشمال سوريا وشعر بها السكان في بلاد أخرى محيطة هي مأساة إنسانية هائلة لا تقل عن ما خلَّفته كوارث أخرى بل تزيد.
لا يملك المرء الذي لديه القدر الأدنى من الإنسانية إلا أن يحزن على آلاف الضحايا وعشرات آلاف المصابين وأكثر منهم ممَّن تهدمت بيوتهم وخربت أراضيهم، وأصبحوا بلا مأوى ويفعل كل ما يمكنه لمساعدة المتضررين. ذلك هو الشعور الإنساني الطبيعي، بغضِّ النظر عن أي شيء آخر، هذا ما تشعر به إذا كانت حرائق كارثية في كاليفورنيا أو تسونامي في الفلبين أو بركان في نيوزيلاندا. لكن الكوارث الطبيعية، والهائلة منها تحديدا، مثلها مثل كل الأزمات الكبرى كما تظهر أنبل ما في النفس البشرية من تعاضد وتآزر وهبة للمساعدة والدعم بلا حدود، تظهر أيضا أدنى ما في تلك النفس المجبولة على النقيضين. وفي غضون السنوات القليلة الأخيرة، شهدنا ذلك أكثر من مرة. على سبيل المثال في عز أزمة وباء كورونا بينما تضامن كثير من البشر في وجه عدو ميكروبي قاتل سريع الانتشار هاجم البشرية كلها دون تفرقة على أساس لون أو عرق أو جنس أو دِين، كان هناك من آثر الأنانية بانتهازية مريضة، بل وفجر في ذلك حتى سرق مستلزمات وقاية اشتراها غيرها. وشهدنا دولا لا تدعي فوقية أخلاقية على أحد ولا تخطب وتعظ في العالم من أجل حقوق الإنسان وقِيَم العدل والمساواة كما تفعل غيرها تسارع لتقديم العون من مستلزمات وقاية وغيرها لكل من يحتاجها في أنحاء العالم. في المقابل، بعض الدول ـ التي توصف بالكبرى والمتقدمة ـ التي تَعد نفسها أعلى أخلاقيا من بقية البشر تخطف من هنا وهناك وتمنع حتى مساعدة الآخرين.
ثم جاءت أزمة أوكرانيا، وحدثت أزمة طاقة وغذاء آنية ثم رأينا اتفاقات تصدير الحبوب التي تستهدف مساعدة الدول النامية الأكثر استيرادا والتي تعتمد عليها لإعاشة شعوبها، لكن في النهاية تحولت الشحنات إلى الدول التي فرضت الحصار وتساعد على استمرار اشتعال الحرب. أما أسوأ ما في الإنسانية فظهر جليا في تلك الصرخات المتكررة من المراسلين الغربيين في بداية الحرب وهم يستدرون عطف مواطنيهم في أوروبا وأميركا واصفين الأوكرانيين بأنهم «مثلنا، يشبهوننا وليسوا من الشرق الأوسط». لم تكن تلك زلات لسان، أو أخطاء منعزلة، إنما هي إحدى خصال النفس البشرية الدنيئة التي يكبتها الخوف من القانون لكنها تظهر بعفوية في أوقات الأزمات الكبرى.
للأسف الشديد، هذا ما حدث أيضا في تلك الكارثة الطبيعية الهائلة التي ضربت تركيا وسوريا. وأظهرت أفعال الطبيعة خصال الإنسانية النبيلة والوضيعة على السواء. فبينما كثير من البشر العاديين حول العالم يشعرون بالحزن والأسى على ما أصاب المتضررين؛ لأنهم في النهاية بشر تعرضوا لحدث لا ذنب لهم فيه وجدنا من يبرر عدم تعاطفه بأسباب خرافية من قبيل أن ذلك غضب على تلك المنطقة التي احتلها إرهابيو داعش والقاعدة أو من يدَّعي العكس بأن السماء غضبت على تلك المناطق التي قاومت الإرهابيين. وفي الوقت الذي سارعت فيه دول وجماعات ومنظمات لتقديم الإغاثة الفورية بقدر ما تستطيع لكلا البلدين، وجدنا آخرين يستثنون إحدى الدولتين بحجة وجود عقوبات مفروضة عليها لأسباب سياسية!! وكأن الإنسانية لا تتجاوز كل تلك الحجج التي يبرر بها مدَّعو الأخلاقية وضاعتهم الإنسانية. وإذا كان المرء لا يستغرب من بعض منافذ الإعلام الغربية، التي تقيس أهمية الخبر بنوعية الضحايا وجنسياتهم بتمييز أقرب للعنصرية بين العربي والأميركي أو الإفريقي والأوروبي أو الآسيوي وغيره، أن تكون تغطيتها للكارثة مشوبة بتقسيم المناطق سياسيا فإن الغرابة فعلا أن تفعل منافذ إعلام عربية ذلك. وليس هناك أي منفعة انتهازية سياسية من وراء ذلك في تغطية كارثة طبيعية. إنما يعكس تدهورا إنسانيا لدى القائمين على تلك المنافذ. وكما مرَّ وباء كورونا وتعودت البشرية العيش معه، وكما ستنتهي الأزمة في أوكرانيا بأي نتيجة كانت ستمر كارثة الزلازل ولو بألم عظيم وفقد بشري مهول ودمار مادي كبير. وسيعمر الناس تلك الأرض مرة أخرى، لكن درس كشف الطبيعة للخصال الإنسانية لن يمر بدون آثار تستمر لأجيال. رحم الله الضحايا ودعوات بالشفاء للمصابين وألفة بين قلوب الناس تعيد المشردين إلى مواطنهم.



د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري
[email protected]